في مذكرات أحد علماء الحيوان الغربيين ذكر أنه عاش في غابات افريقيا عددا من السنين من القرن الماضي، يدرس حياة أقرب الحيوانات الثديية للإنسان، تلك هي قرود الشمبانزي والغوريللا. فوجد أنها تأثرت بالإنسان الذي كان يعيش في قبائل على أطراف الغابة، فأخذت تصنع لها من الأخشاب بيوتا كبيوت البشر. ولكن دهشته كانت كبيرة عندما اكتشف انها في آخر الأمر اختارت العيش فوق سقوف البيوت بدلا من العيش مثل أبناء آدم داخلها!
عقلية القرود هذه تتحكم في حياتنا أحيانا كأفراد، وأحيانا كمجتمع يعيش في مطلع قرن جديد، وحينها تكون المأساة أكبر وأفجع. وهذا ما يشعر به المرء عندما يشاهد بعض البرامج المستوردة قلبا وقالبا. فتقف إحدى المذيعات الفاشلات بوجهٍ عابسٍ يتطاير منه الشرر في برنامج المسابقات الذي تبثه فضائية عربية. وعقدتها انها تريد ان «تقلد» حرفيا نظيرتها، أو «سيدتها» الغربية، حتى في حركاتها وسخفها وهزئها بالمتسابقين. هذه المذيعة الساذجة تظن ان تقليد الغربيين حتى في الوقاحة سيرفعها في عيون الناس الشرقيين! وكانت النتيجة ان مني برنامجها «المستورد» بفشل ذريع.
الصفاقة مقابل الذكاء
هذا النموذج الفاشل يقابله نموذج ذكي حقق نجاحا جاهيريا كبيرا في برنامج مسابقات مماثل، وهو جورج قرداحي، وكان مفتاحه لقلوب المشاهدين العرب هو الابتسامة، ودماثة الاخلاق، فإذا ضحك من قلبه أمام موقف عفوي كالطفل البريء شعر المشاهد العربي انه فرد من عائلته.
قرداحي لم يقلد أحدا، اختار ان يكون هو نفسه، ولذلك كسب قلوب الملايين، على عكس تلك المذيعة الفاشلة التي نسيت ان الابتسامة هي مفتاح القلوب في الشرق، وإذا كان مقبولا في القسم الغربي من الكرة الأرضية ان يعنف المذيع المتسابق ويحسب ذلك من باب التنكيت، فإن مدلول هذا الفعل في القسم الشرقي يعطي انطباعا بالحماقة والخرق والاستهتار، لذلك لو أجري استفتاء بين المشاهدين لاختيار «أقبح مذيعة عربية» لاختارها 90 في المئة من جمهور التلفزيون العربي.
والسؤال: ما الذي يدعونا إلى استيراد هذه البرامج المعلبة؟ ولماذا نأخذ بكل ما تتفتق عنه قرائح المجتمع الغربي مهما تكن رداءته؟ هل هي عقدة الاستلاب للأجنبي؟ فأنت عندما تريد ان تشتري كيس البطاطس أو اللحوم المجمدة من البرادات تفحص تاريخ صلاحيتها ومحتوياتها، ونحن لا نفحص مدى صلاحية هذه المواد الهابطة باسم التقدم؟! وهل في مثل هذه البرامج ما يفيد الشاب العربي إذا كان يشاهد «الأبطال» و«القدوات الصالحات» وهم يغطون في نوم عميق حتى الظهيرة؟ آباؤنا علّمونا ان النوم والكسل من العادات الذميمة، وهذه البرامج تعلّم الجيل الناشئ النوم حتى الظهيرة. تأتون بهذه البرامج التافهة ثم بعدها تقولون ان الشباب لا يُقبل على العمل ويحب حياة الدعة والكسل والبطالة. هل فكّرتم يوما في ما هو أبعد من المال والربح وما ستدره من وظائف مؤقتة لا تجدي شروى نقير؟ هل هناك تفكير في مستقبل هذا الجيل الذي سيتربى على هذه القيم غير الفاضلة ونحن أمام تباشير موجة قادمة عارمة من الهزات، عندما نفتح عيوننا على بعد عشرة أعوام أمام 100 ألف عاطل عن العمل؟ هل تتصورون كيف ستكون حال البلد حينها؟ هل فكّرتم في اندياح جرائم السرقات والمخدرات والقتل والعنف المنزلي والاعتداء على الاعراض والاموال؟
حتى البريطانيون انتفضوا!
في بريطانيا، هذا المجتمع الذي أباح العلاقات الشاذة وسنّ لها القوانين تحت قبة البرلمان قبل أربعين سنة، عندما عرض هذا البرنامج ترافعت الأصوات مطالبة بإيقاف المهزلة، فكيف يستكثرون أن يعلن الناس آراءهم بشأن برنامج سيدخل في بيوتهم وستتأثر به أخلاق أطفالهم وأبنائهم وبناتهم؟ ثم هو برنامج سيرتبط باسم البلد، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وبصراحة، وبعيدا عن التضخيم، ان مثل هذه البرامج التي مالت إليها قلوب القائمين على المؤسسات الاعلامية في الفترة الأخيرة في بلدان العرب، انما هي شهادة تقدمها هذه المؤسسات على إفلاسها الثقافي حينما اختارت ان تسكن فوق السقوف مثل شمبانزي الأدغال الافريقية بدل العيش مثل أبناء آدم المحترمين داخل البيوت. وهي في الختام شهادة على موتها السريري في ميدان الحضارة على الإطلاق
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 536 - الإثنين 23 فبراير 2004م الموافق 02 محرم 1425هـ