تعددت الأسباب، والهدف واحد، ألا وهو إعادة تشكيل المنطقة العربية المحملة بعناصر التوتر، لكي تدخل في مجال الحضانة الأورو أميركية، بأبسط الاساليب وأكثرها جاذبية... وهل هناك أكثر من الديمقراطية قدرة على تحقيق ذلك؟
قبل أيام كما نشارك في ندوة مهمة عن الشفافية والمحاسبة والاصلاح الديمقراطي في الوطن العربي، نظمها برنامج الأمم المتحدة الانمائي مع المنظمة الاوروبية للتعاون الاقتصادي والتنمية، وحضرها عدد محترم من المهتمين العرب والاجانب، سواء من ممثلي الحكومات واجهزتها، أو من المنظمات العربية غير الحكومية، أو من الشخصيات المهتمة بقضية الاصلاح الديمقراطي.
هدفها بوضوح - وهي واحدة من سلسلة اجتماعات - الحوار عن ضرورات الاصلاح في الدول العربية، الآن قبل الغد، ابتداء من اصلاح الاجهزة الادارية، إلى اصلاح النظم السياسية، مرورا بمجالات الثقافة والاعلام والتعليم والاقتصاد والمرأة، لكن الواضح انه كانت هناك فوارق محددة بل اختلافات في المنهج والوسائل وتوقيت هذه الاصلاحات، ما بين معظم الاطراف العربية، والاطراف الاوروبية، بسبب اختلاف الثقافات والسياسات، وما بين الاطراف الحكومية العربية، وتلك غير الحكومية، بل ازعم ان دوافع الأمم المتحدة وبرنامجها الانمائي النشيط، تتمايز عن دوافع دول الاتحاد الأوروبي، وطبعا عن اهداف السياسة الأميركية بشأن الاصلاح.
لقد لاحظنا ذلك، في المداخلات والمداولات عن قضايا لا تحتمل كثيرا من الخلاف العصبي، مثل من أين تبدأ الدول العربية المستهدفة اصلاح اوضاعها، هل تصلح الاجهزة الادارية أولا، أم تبدأ باصلاح نظمها القانونية والتشريعية، أم تدخل مباشرة نحو الاصلاح الاقتصادي والمالي، أم ان الاولوية يجب ان تكون للاصلاح السياسي الديمقراطي الشامل، تحقيقا لمبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وتداول السلطة وحرية الصحافة والرأي والتعبير.
وقد قلنا إن المهمة أن نبدأ طريق الألف ميل بخطوة اصلاحية شجاعة، تحتمها ظروفنا ومطالب شعوبنا الساعية للتقدم والحرية والتوافق مع حركة العالم المتسارعة، مثلما تدق على رؤوسها ضغوط خارجية عاتية، كانت بالامس القريب اميركية، وأصبحت اليوم اميركية واوروبية ايضا، لكن المنسق الاقليمي للبرنامج الانمائي للأمم المتحدة عادل عبداللطيف وضع القضية منذ البداية بصورة اكثر تحديدا، حين أكد «أن الدول العربية في أشد الحاجة لاتخاذ اجراءات عاجلة، من أجل تحقيق الحكم الصالح الرشيد، لتواجه التحديات الخطيرة التي تهدد استقرار مجتمعاتنا، خصوصا فيما يتعلق بزيادة السكان مقابل تناقص النمو، الأمر الذي يزيد معدلات البطالة، وهي التي تبلغ 15 في المئة في معظم الاقطار العربية، وتصل إلى 20 في المئة في بعضها، ولذلك فالعرب مطالبون اليوم بتعديل واصلاح اوضاعهم في ظل تحديات العولمة، اقتصاديا وثقافيا وسياسيا.
ولقد دار حوار طويل ومفيد عن أهمية قيام الحكم الصالح الرشيد في بلادنا العربية، الموصوفة تاريخيا بالاستبداد والفساد والتخلف، ونظن انه ليس هناك من سبيل لبلوغ ذلك افضل من غرس ثقافة الحريات وحقوق الانسان في عقول اطفالنا، منذ النشأة حتى الوفاة، لأن الحديث عن اصلاح من فوق، لا يكفي بل لا يحل الازمة، فالأزمة كامنة في العقول منذ الصغر، ورابضة في العقول حتى الكبر، وحلها يبدأ باصلاح العملية التربوية التعليمية التثقيفية على المدى الطويل، حتى نتمكن من سد فجوة النواقص الثلاثة، التي أشار اليها التقرير العربي للتنمية الانسانية، وهي نقص المعرفة، ونقص الحرية، ونقص دور المرأة نصف المجتمع.
غير ان ذلك لا يعني ان نؤجل الاصلاح الشامل حتى تنشأ اجيال جديدة تؤمن بهذه المبادئ السامية، بل إن انجازات التاريخ، وخصوصا من المعارف الحديثة والخبرات المكتسبة، تختصر في لحظات من خلال عصر ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، وبالتالي فلا حجة ولا حاجة للانتظار سنوات وعقودا حتى نبدأ الاصلاح، بل إن ضرورات العصر وضغوطه تحتم أن نبدأ الاصلاح الشامل فورا، قبل ان تدهمنا عجلة الحضارة الحديثة بسرعتها الفائقة، التي لا تنتظر الكسالى والمترددين.
بالقدر نفسه، لا حاجة ولا حجة لتفضيل الاصلاح الاداري أو الاقتصادي، على اولوية الاصلاح السياسي والقانوني والدستوري، لتحقيق خطوات واسعة في طريق الديمقراطية الحقيقية بأن ينالا بأيدي غيرنا، كلاهما مطلوب بشدة، إذ لا يمكن ان ينجح اصلاح اقتصادي واداري، من دون نظام سياسي يقوم على الحرية والمشاركة وتداول السلطة، على الشفافية والمحاسبة والمراتبة، على حرية الرأي والصحافة والتعبير، ثم على دولة المؤسسات والقضاء المستقل والقانون العادل الذي يساوي بين الجميع.
وكفانا تهربا من مسئولية اجراء الاصلاحات الجذرية الضرورية، بهذه الحجة أو تلك!
وبينما كنا غارقين في هذا الحوار المهم، الذي استضافته مدينة اسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية والخلافة الاسلامية سابقا، التي خلعت حديثا عن نفسها العمامة ولبست القبعة، تقربا لاوروبا، جاءتنا الانباء بحديثين مهمين من اوروبا، ومن اميركا في تزامن منضبط وملفت، وكلاهما يركز على قضية محورية، هي الاصلاح الديمقراطي في «الشرق الأوسط».
- الحديث الأول جاء من واشنطن على لسان الرئيس الاميركي بوش اولا، ثم بالتفصيل على لسان وزير خارجيته كولن باول ثانيا، يتحدث عن المشروع الاستراتيجي الجديد، «الشرق الأوسط الكبير» وهو الممتد في عرف المطبخ الاميركي، من المغرب حتى اندونيسيا، ليتسع خارج حدود وتخوم مفهوم الشرق الأوسط القديم، الذي كان يضم الدول العربية وبالكاد ايران وتركيا وربما باكستان.
و«الشرق الأوسط الكبير» ليس هدفه محاربة الارهاب والتطرف الاسلامي وتدمير «أسلحة الدمار الشامل»... فحسب وفق المفهوم الاميركي، ولكن الهدف هو النجاح في تحقيق كل ذلك، عن طريق تحديث هذه المساحة الاستراتيجية التي تضم كل العرب والغالبية العظمى من المسلمين، ومن ثم تعليمهم الديمقراطية وفق الأصول، وفرض اصلاحات سياسية واقتصادية وثقافية كبيرة وعاجلة، فشلت الحكومات المعنية في اجرائها فزاد الفقر والتخلف والتطرف وازدهر الارهاب، فإما ان تفعل هذه الحكومات ذلك وإما تحرم المعونات وتحاصر وتعزل أو تقلب وتسقط!
- الحديث الثاني جاء من ميونيخ على لسان وزير الخارجية الالمانية بوشكا فيشر متحدثا باسم المجموعة الاوروبية، امام نحو 250 وزيرا وخبيرا سياسيا وعسكريا، حضروا مؤتمرا للأمن الدولي، وفيه شرح مبادرة أخرى، تأخذ طابعها الأوروبي، بشأن المشاركة عبر ممر المتوسط، اي بين الدول الواقعة جنوب البحر المتوسط - العرب - وبين دول اوروبا وحلف الناتو، وهدفها ايضا اجراء اصلاحات تصدر التهديدات الخطيرة لاوروبا.
ودوافع اوروبا واضحة ايضا، بعدما أصبحت دول الجناح الجنوبي للبحر المتوسط «العربي الافريقي» مصدر خطر وتهديد متجدد لدول الجناح الشمالي «الاوروبي الاطلسي»، الفقر والتخلف والتطرف يهاجر هو الآخر عبر المياه والحدود، مثلما تهاجر رؤوس الأموال والسلع الاوروبية بحرية، لكن اوروبا المتقدمة أصبحت اليوم تعج بنحو ثلاثين مليونا من المهاجرين العرب والمسلمين، وتحارب كل يوم موجات الهجرة غير الشرعية، وترتعد خوفا ليس فقط من المشكلات الأمنية والاقتصادية لهؤلاء الجنوبيين، ولكن ايضا من انتقال مشكلاتهم الاجتماعية والدينية وعقدهم الثقافية والاخلاقية معهم إلى قلب اوروبا المختلفة، ناهيك عن تطلعاتهم السياسية ومطالبتهم بحقوقهم القانونية، ما أصبح خطرا بهدد شاطئ الرفاهية الاوروبية، قادما من شاطئ الفقر العربي الاسلامي الافريقي.
تفاديا لمثل هذه المخاطر وتوقيا لسلبياتها، وتتحرك اوروبا بقوة، سعيا إلى تعاون واتفاقات ومشاركات مع الدول العربية خصوصا، تبدأ من تقديم المشورة والخبرة، حتى تقديم المساعدات المالية والاقتصادية، على أمل إحداث تقدم يقضي على البطالة ويقلل الفقر، ومن ثم يوقف نزيف الهجرة إلى الشمال، ولعلنا نلاحظ قوة التركيز الاوروبي - منذ اتفاق برشلونة، حتى اجتماع 55 في تونس قبل اسابيع - على الدول العربية بشمال افريقيا، التي تشكل المصدر الرئيسي للهجرة.
الجديد الآن، هو اقتحام اوروبا علانية لمجال جهود الاصلاح السياسي الديمقراطي في الدول العربية، بعدما كانت متحرجة في السابق على عكس اميركا، بهدف تطوير هذه المنطقة سياسيا وقانونيا واقتصاديا وثقافيا، كما اعلن وزير خارجية ألمانيا باسم المجموعة الاوروبية، والفرق هو ان المبادرة الاوروبية اكثر نعومة ودبلوماسية، بينما المبادرة الاميركية اكثر خشونة وعلانية.
ونرجو ألا يتصور أحد ان هناك اختلافا أو منافسة بين المبادرتين الاوروبية والاميركية، على رغم ثنائية الاعلان عنهما أو حتى قدرة التزويق فيهما، ذلك انهما تشكلان مبادرة اورو أميركية واحدة، تعبر عن أهداف استراتيجية موحدة لحلف الاطلسي، الذي توسع شرقا حتى ابتلع موروثات حلف وارسو المنهار، وها هو يتوسع جنوبا، لا ليدخل الدول العربية من مشرقها إلى مغربها تحت مظلته، ولكن ليتوسع شرقا حتى اندونيسيا، في اكبر واضخم توسع استراتيجي للتحالف الاوروبي الاميركي، مستعيدا العهد الذهبي للامبراطوريات الاستعمارية الغربية.
نحن اذا امام هجوم استراتيجي غربي هائل، باسم مبادرات تطوير وتحديث الشرق الأوسط الكبير، واجراء اصلاحات ديمقراطية، تقضي على تخلفه وتطرفه وتستأصل الارهاب الذي يهدد الحضارة الغربية، ويضع شعوب هذه المنطقة تحت الوصاية والحماية للحلف العسكري الاضخم والاوحد في عالم اليوم، الذي تقوده ايضا القوة الاعظم الوحيدة والمنفردة.
وفي شهر يونيو/ حزيران المقبل، سيضع قادة التحالف الاوروبي الاميركي على قمة جدول اعمالهم التفاصيل الكاملة لهذه الهجمة، من خلال اولا قمة الدول الصناعية التي ستعقد في ولاية جورجيا الاميركية وثانيا قمة حلف الاطلس في اسطنبول، والتفاصيل لا تضم فقط إزالة باقي الخلافات بين اوروبا - خصوصا فرنسا والمانيا - وبين اميركا بسبب غزوها للعراق، ولكن اساسا تضم إعادة هندسة علاقات تحالف الاطلسي، وتحقيق توافق اكبر على التوسع الاستراتيجي الأمثل، بادخال كل العرب والمسلمين في ميدان التحرك الاستراتيجي لحلف الناتو، وترسيخ نظرية شن الهجوم الوقائي - الاستباقي على مصادر التهديد، كما يتبناها صقور الادارة الاميركية، مقابل اعطاء ادوار رئيسية لدول مثل «اسرائيل» أو تركيا عضو حلف، وتهميش دول أخرى مثل مصر!
من جديد، وبفعل تخلفهم واستبدادهم، يعود العرب إلى نقطة الصفر، اي إلى مرحلة الوقوع في براثن الاستعمار، ولكن برايات وشعارات جديدة، واهداف قديمة، لا فرق بين ما كانت تدعيه الامبراطوريات البريطانية والفرنسية والبلجيكية والهولندية مثلا، خلال القرون الماضية، وبين ما تدعيه الامبراطوريات الغربية الحديثة الآن، كلهم جاءوا ليعلمونا الديمقراطية والتقدم والتحديث، لاننا بصراحة ادمنا الفساد والاستبداد والتخلف، وعشقنا الوقوع في غرام المحتل الغاصب!
ترى هل ستبحث القمة العربية الوشيكة - في تونس، هذا الملف الشامل والخطير؟وتضع هي الاخرى مشروعها الاستراتيجي في مواجهة هذا المشروع الغربي، شاملا فرصة الديمقراطية ورفض الهيمنة الجديدة، أم أن الخلافات على تعيين الامناء المساعدين للجامعة العربية و«كوتة» الموظفين من كل دولة، سيستحوذ على كل الاهتمام!!
خير الكلام:
يقول ابن زيدون الاندلسي:
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 535 - الأحد 22 فبراير 2004م الموافق 01 محرم 1425هـ