العدد 535 - الأحد 22 فبراير 2004م الموافق 01 محرم 1425هـ

«الجدار» والنفاق السياسي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من المقرر أن تبدأ اليوم في لاهاي (هولندا) محكمة العدل الدولية أولى جلساتها في شأن مدى قانونية بناء جدار «الفصل العنصري». المعركة اذا بدأت واساسها هو إعادة التذكير بالمواثيق الدولية والقوانين التي اتفقت عليها دول العالم واعتمدت للفصل بين الخلافات. والمعركة اخلاقية قبل ان تكون سياسية وهي مناسبة للكشف عن مدى «تحضر» الدول التي تدعي التقدم والمدنية في زمن تكيل فيه بالمكيالين وتميل إلى النفاق السياسي حين يتعلق الأمر بموضوع يمس «إسرائيل».

وقبل أن تبدأ المحكمة جلساتها بدأ الفرز الاخلاقي بين الدول والهيئات والمنظمات. فمجلس الكنائس العالمي (يضم 300 كنيسة مسيحية) طالب الحكومة الاسرائيلية في ختام جلسات عقدها الشهر الجاري في جنيف بوقف البناء والعودة إلى الوراء لأن الجدار يشكل انتهاكا لشرعية الأمم المتحدة والقانون الدولي بينما اتجهت دول اوروبا والولايات المتحدة إلى ترجيح احتمال مقاطعة جلسات المحكمة وعدم حضور مداولاتها لينحصر الحضور بالدول العربية والمسلمة ودول العالم الثالث.

المعركة اذا يعتمد اساسها على الاخلاق ولهذا السبب احتجت إدارة واشنطن على انعقاد المحكمة متهمة اياها بأنها أصبحت رهينة لبعض دول العالم الثالث. وأغرب من احتجاج واشنطن هو احتيال دول الاتحاد الاوروبي على المسألة حين رأت أن انعقاد المحكمة في هذا الوقت «غير مناسب» لأنه يعطل احتمالات التسوية ويزيد من صعوبات حل المشكلات. فالدول الأوروبية (أو بعضها) ترى في اللجوء إلى المحكمة مسألة غير ضرورية على اعتبار ان موضوع الجدار «مسألة سياسية» وليست قانونية - خلقية.

«إسرائيل» تعرف أن معركتها خاسرة لأن قضيتها في الاساس تقوم على قواعد غير اخلاقية ومخالفة للاعراف والقوانين الدولية ولقرارات مجلس الأمن ولكنها مع ذلك تخاف من الإعلام المضاد الذي يبحث في تفصيلات الموقف ولا يتردد في كشف الحقائق. وخوفا من الفضيحة لجأت مجددا إلى الاحتيال الذي اشتهرت به سياستها فقررت قبل ايام من انعقاد أولى الجلسات إزالة اجزاء (ثمانية كيلومترات) من الجدار قرب ثلاث قرى شمال الضفة وهي: باقة الشرقية، زيتاشمال طولكرم، وقفين.

إلا أن المسألة ليست ثمانية كيلومترات بل هي اساسا تتعلق بالقانون واخلاق القانون واحترام القرارات الدولية. فالجدار يقضم ثلث الأراضي الفلسطينية وهذا هو الموضوع الاساسي الذي يفترض ان تصدر الهيئة القضائية الرئيسية التابعة للأمم المتحدة رأيها فيه. صحيح أن اراء المحكمة ليست ملزمة ولكنها موكلة من الأمم المتحدة للبحث في الاجراءات القانونية. فـ «إسرائيل» اصلا رفضت الاعتراف بأهلية المحكمة ولكنها لا تستطيع تجاهل جلسات محكمة دولية تتألف من 15 قاضيا تم انتخابهم من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن. كذلك لا تستطيع أن تدير وجهها لقرارات محكمة دولية. فالمحكمة تعتبر اعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة أسستها دول العالم في العام 1946 ونجحت حتى الآن في اصدار 24 حكما (رأيا) في قضايا حساسة كان لها اثرها الاخلاقي لأنها اعطت شرعية للأمم المتحدة في فرض عقوبات دولية على الدولة المخالفة. وفي هذا المعنى تخشى «اسرائيل» ان يؤدي الحكم (الرأي) ضدها إلى فتح الطريق امام احتمال فرض عقوبات دولية عليها.

طبعا «اسرائيل» مطمئنة إلى الموقف الاميركي وبعض الموقف الاوروبي في تعطيل احتمال فرض عقوبات. فهي تعرف ان «النفاق السياسي» اقوى هذه الايام من القوانين الدولية واخلاق القانون. إلا أن المسألة ليست كذلك فهي هنا تتعلق بمدى استمرار صدقية محكمة دولية تعتبر أعلى هيئة لفض المنازعات في العالم. وذريعة «اسرائيل» في هذا الجانب ضعيفة وغير قانونية فهي تقول إن بناء الجدار يعود لأسباب أمنية ولحماية الاحتلال والمستوطنات ولكن ذريعة الجانب الفلسطيني اقوى فهي تُختصر بكلمتين: لماذا الاحتلال؟ وعلى هذا الاساس يرجح ان تركز محكمة العدل مناقشاتها. وأهم النقاط ستكون الاتية وهي: مراجعة اتفاق جنيف الرابع الذي يحدد ما هو مسموح به في أراض محتلة، متابعة مسار الجدار الذي لا يتبع الحدود الدولية الفاصلة بين احتلال 1948 واحتلال 1967، كشف مدى التوغل في عمق الأراضي المحتلة التي يجب على تل ابيب الانسحاب منها، ملاحظة التواء الجدار بشكل يطوق الكثير من المدن والقرى ويمتد في داخل الضفة ليشمل مستوطنات.

المشكلة كما تراها المحكمة (تسلمت حتى الآن بيانات خطية من 44 دولة تناقش حيثيات القضية) ليست في «الجدار» بل في مساره داخل الأراضي الفلسطينية. فالدولة العبرية، بحسب المحكمة، من حقها ان تفعل ما تشاء في اراضي 1948 ولكنها وهذا هو الجانب الأخلاقي - القانوني لا يحق لها بناء جدار في أراضي غيرها. انها فعلا معركة اخلاقية واساسها فضح النفاق السياسي في دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 535 - الأحد 22 فبراير 2004م الموافق 01 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً