قبل أن تصدر النتائج النهائية للانتخابات الإيرانية أطلقت واشنطن إشارات سلبية ضد طهران مثيرة الشكوك في نزاهة الاقتراع. وأرفقت واشنطن تشكيكها بالانتخابات بملاحظات جديدة عن عدم تعاون طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. التشكيك والملاحظات يصبان في سياق واحد وهو احتمال تغير سلوك الإدارة الأميركية مع إيران في المرحلة المقبلة. والسلوك الأميركي الجديد يحتمل أن يتبلور في ضوء نتائج انتخابات الرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فتلك النتائج ستقرر إلى حد كبير استراتيجية جورج بوش في دائرة ما يطلق عليه «الشرق الأوسط الكبير».
من الآن حتى نوفمبر هناك الكثير من التوقعات السياسية التي يمكن وضعها في حساب التوازنات الدقيقة التي اضطرت أميركا إلى اتخاذها بعد ظهور موانع دولية ومحلية عطلت اندفاع الهجوم الذي بدأ بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول. فالجمهور الأميركي الآن بدأ يتراجع عن تأييده للسياسة الأمنية التي اتبعها الرئيس واكتشف بعد تجربة مرة أنها كانت مفتعلة وحصلت بتحريض من لوبيات (مافيات) مؤسسات التصنيع العسكري وشركات النفط. فالجمهور الأميركي دفع ثمن مغامرات بوش العسكرية الطائشة من حريته الشخصية سواء على مستوى العلاقات مع الخارج أو على مستوى تحركاته ضمن الولايات الأميركية. هذه السياسة البوليسية ذكرت الجمهور الأميركي بالفترات الأمنية التي مرَّ بها في عهود سابقة وتحديدا في الفترة المكارثية. وكل هذا الماء صب في طاحونة الحزب الديمقراطي وبات مرشحه المحتمل للرئاسة (جون كيري) هو الأوفر حظا بالفوز في المعركة في حال رشحه حزبه للمقعد الأول.
سقوط بوش في الانتخابات الرئاسية مسألة واردة ويمكن ألا تقع وذلك بحسب النتائج السياسية التي ستسفر عنها اللقاءات الدولية والقمم المفترض عقدها بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الشهور الستة المقبلة. فمستقبل بوش يرتبط بمدى نجاحه في تسويق مشروعه عن «الشرق الأوسط الكبير» وادخال أوروبا كطرف شريك في المعادلة الإقليمية. كذلك يرتبط مستقبله بمدى نجاحه في إعادة تسويقه لسياسته الأمنية (البوليسية) في الداخل الأميركي على حساب حاجات المواطن. هذه الأمور تناساها بوش في فترة السنوات الثلاث بذريعة انشغاله في الحرب على الارهاب وتنظيم «القاعدة» وحكم «طالبان» و«نظام صدام». فهذه الدعاية الانتخابية (الأمنية) لم تعد تجدي نفعا لكسب أصوات الناخبين. فالاقتصاد الأميركي الآن يمر في أسوأ حالاته قياسا بفترة الرئيس السابق بيل كلينتون. وخفض بوش للضريبة على أصحاب الدخل المرتفع أعطت نتائج سلبية. فالإدارة كانت تتوقع أن الفائض المالي المقتطع سيشجع الأغنياء على زيادة استثماراتهم وتشغيل العاطلين عن العمل في مشروعات جديدة. إلا أن النتائج خالفت التوقعات إذ تراجع دخل الخزانة الأميركية من المال العام المقتطع من الضريبة ولم يتحسن الاستثمار في القطاعات المنتجة التي تستوعب الفائض من سوق العمالة.
هذا الوضع المتناقض بدأ يضغط انتخابيا على بوش فهو لا يستطيع أن يتراجع عن سياسة اقتصادية ضعيفة أملت عليه رفع موازنة الدفاع إلى أرقام خيالية ( أكثر من 401 مليار دولار سنويا). وهو أيضا لا يستطيع أن يتقدم لإعادة النظر في موازنته (توزيع الثروة) وتعويض النقص في موازنات الصحة والضمانات الاجتماعية وغيرها من أمور صغيرة تمس حاجات دافع الضرائب الأميركي.
بوش في وضع سلبي انتخابيا ومع ذلك نراه لا يتردد في إعلان تدخله في شئون دول يعتبرها في تقريره عن «الشرق الأوسط الكبير» من البلدان الناقصة والفاشلة. فالرئيس الأميركي يعطي الدروس عن التنمية وهو فشل اقتصاديا (في المقياس النسبي) في بلاده. وهو أيضا يتحدث عن نشر الديمقراطية في «الشرق الأوسط» وكأنه يتحدث عن مسحوق غسيل يستخدم للتنظيفات أو مادة سامة تستخدم لإبادة الحشرات.
مفاهيم بوش عن التنمية والديمقراطية أقرب إلى سلع (بضاعة) للتصدير وليست نتاج قراءة لتطور زمني لا يقوم عمليا قبل أن تتوافر له جملة ظروف وتطورات موضوعية (اجتماعية، اقتصادية، وتنظيمية).
إدارة بوش تتحدث الآن عن قلة نزاهة الانتخابات الإيرانية بينما هي جاءت إلى الرئاسة في عملية «تطبيقية» يشك الكثير من الناس أنها مرتبة. وليست دستورية.
لاشك هناك مشكلة مستحدثة في إيران ولكن إدارة بوش لا يحق لها توزيع المواعظ في وقت بدأت تنكشف فيه الأساليب الملتوية التي أنتجت قيادة البيت الأبيض الحالي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 534 - السبت 21 فبراير 2004م الموافق 29 ذي الحجة 1424هـ