رد عبدالناصر رحمه الله في لقاء صحافي معه في أواخر حياته على سؤال يتعلق بشأن ما يعتبره من الغلطات التاريخية في حياته فأجاب: «تعيين العسكر لإدارة عدد من المؤسسات المدنية، وخصوصا في مجال التعليم والفكر، ولم اتفهم ذلك إلا بعد ان وجدت الفرق بين إدارة الثقافة التي تولاها ثروت عكاشة وجماعته وبين بقية المؤسسات التي أدارها العسكر».
أليس العسكر مواطنين قبل كل شيء؟ ثم أليس العسكر كانوا مدنيين ثم اتجهوا لدراسات من نوع آخر وبعده مارسوا وظيفة تتسم بالشدة والضبط والربط، اسئلة ترد على الذهن حين يفرق الناس بين العقلية العسكرية والعقلية المدنية.
في الوهلة الأولى ومن خلال نظرة سطحية قد يقول المرء لا فارق بينهما، غير ان الحقيقة تؤكد غير ذلك. فالدراسة الاكاديمية الطويلة في هذا النوع من التخصص ثم الممارسة العملية الطويلة لهذا النوع من العمل الشاق يغير من طبيعة هؤلاء وسلوكهم ما يجعل عقولهم لا تتسم بالمرونة وتقبل الانماط المختلفة من الاطروحات الفكرية والفلسفية. صحيح هذا لا يمنع من ان بعضهم قد يطورون انفسهم وربما ميولهم الثقافية، وباختلاطهم بالمجتمع قد يجعلهم قادرين ان يتحولوا إلى عناصر مرنة قادرة على استيعاب ما في الفكر المدني من آليات مختلفة في مواجهة التحديات لكن هذا نادرا ما يحدث. فالعسكر مكانهم الحدود والدفاع عن الوطن ويكفيه شرفا ان يؤدي هذا الدور.
ذكر لي المدير السابق لمدرسة عثمان بن عفان الاعدادية في مدينة عيسى ان أحد موظفي وزارة الداخلية قدم الثانوية العامة ضمن التعليم المسائي ونجح، ويبدو انه كان مجتهدا استطاع ان يكمل دراسته الجامعية في بيروت وعينته وزارة التربية والتعليم مدرسا ومصادفة في المدرسة نفسها التي اكمل الثانوية فيها. يقول مدير المدرسة آنذاك إنه لم يكن عاديا في قسوته مع التلاميذ، وحذرته مرارا انه يتعامل مع تلاميذ صغار لكن الطبع كما يبدو يغلب التطبع فاستمر على اسلوبه ما جعل اولياء أمور الطلبة يضجون ما اضطرني لطلب نقله من مدرستي.
ولهذا فإن إدارة مؤسسة مدنية تحتاج إلى فكر ومرونة وفلسفة لا يصلح لها من تبرمجت عقليته بشكل مختلف ومن الصعب ان ينجح في تحقيق الطموحات المطلوبة
العدد 533 - الجمعة 20 فبراير 2004م الموافق 28 ذي الحجة 1424هـ