استقبلت تركيا حديثا كل من الرئيس السوري بشار الأسد ومثيله المصري محمد حسني مبارك، وكما هي مباحثات الرئيس الأسد مع المسئولين الاتراك، جاءت مباحثات الرئيس مبارك مع المسئولين الاتراك. اذ شملت العلاقات الثنائية والموضوعات الاقليمية، ولاسيما النقطتين الأكثر حساسية في المنطقة: الوضع في العراق، والصراع العربي - الاسرائيلي.
واذا كانت المباحثات التركية - السورية ومثيلتها التركية - المصرية، ركزت على تنمية وتطوير العلاقات السياسية والاقتصادية، فانها قد ركزت في جانب آخر على الوضع في العراق من زاوية مستقبل العراق وخصوصا معارضة تقسيم العراق في اشارة واضحة الى معارضة كل من تركيا وسورية ومصر لظهور دولة او التأسيس لكيان كردي يخرج من جسد العراق.
كما ركزت مباحثات المسئولين الاتراك مع الرئيسين السوري والمصري على موضوع الصراع العربي - الاسرائيلي، وخصوصا دفع مسار التسوية على الجبهة السورية - الاسرائيلية من خلال وساطة تقوم بها انقرة مع الاطراف الثلاثة: الأميركيين والاسرائيليين والسوريين، هدفها اطلاق مفاوضات يتم من خلالها التوصل الى اتفاق سوري - اسرائيلي على جبهة الجولان، يمكن ان يمد ظلاله الى جبهة جنوب لبنان بحيث تتم تسوية مماثلة على تلك الجبهة. وكما هو واضح، فان محتويات مباحثات زوار انقرة من العرب تتماثل مع محتويات زيارات المسئولين الاتراك للعواصم العربية، وخصوصا رئيس الوزراء التركي طيب رجب أردوغان ووزير خارجيته عبدالله غول، وقد تكررت مرات في العام الاخير، وهي تكشف جميعها محاولات تركيا الانخراط الأعمق في جوارها العربي وقضاياه الساخنة، وقد عبرت تركيا عن توجهها هذا في طلب الانخراط بصفة «عضو مراقب» في جامعة الدول العربية على نحو ما اقترح عبدالله غول مطلع العام 2003 على الامين العام لجامعة الدول العربية.
ان اسباب توجه تركيا العربي، لا يستند فقط الى روابط الجوار الجغرافي مع البلدان العربية وغالبية حدود تركيا الدولية مع سورية والعراق، كما ان الاسباب لا تستند الى الروابط التاريخية والثقافية، إذ يجمع الاسلام الغالبية شبه المطلقة من السكان هنا وهناك، كما يجمعهم تاريخ يمتد الى اربعة قرون هي القسم الأكبر من عمر السلطنة العثمانية التي ورثتها تركيا الحالية.
ان اهمية الاسباب السابقة في توجه تركيا العربي، تزداد تأثيرا بانضمامها الى اسباب سياسية واقتصادية وامنية، تدفع تركيا الى تعزيز حضورها العربي، بل في اتخاذها «وجها» لا يقل في عروبته عن «عروبة» بلدان تطلق سلطاتها بين وقت وآخر تصريحات المسئولين فيها للخروج من الجامعة العربية، واخرى تمارس سياسات تبعدها عن التعاطي مع القضايا العربية الساخنة سلبا او ايجابا.
ان بين الاسباب السياسية الخارجية، التي تدفع تركيا الى عمق عربي، توافقات سياسية عربية - تركية، جزء اساسي منها ولد نتيجة اندثار سياسات الحرب الباردة وآثارها في التوجهات العربية والتركية، وهي التي قسمت العرب قبل ان تقسم العرب والاتراك، كما ان بين الاسباب السياسية الداخلية، تدهور مكانة ونفوذ الطبقة السياسية التقليدية بشقيها المدني والعسكري، وصعود طبقة جديدة ذات بعد شعبي اساسه الاسلام السياسي التصالحي ليس فقط في توجهاته الداخلية بل والخارجية ايضا.
ويقع في دائرة الاسباب الاقتصادية للتوجه التركي، حرص تركيا على تنمية علاقاتها التجارية مع البلدان العربية القريبة في جغرافيتها والواسعة باسواقها واعداد مستهلكيها، وكثيرة الاحتياجات لسلع وخدمات، اضافة الى امكان انخراط الخبرات والاستثمارات التركية في اعمال انشائية وانتاجية في كثير من البلدان العربية.
ولعل الشق المتصل بالاسباب الامنية لتوجه تركيا الى العرب، لا يقل اهمية عما سبق. ففي الهاجس التركي اليوم جوانب مختلفة ومتعددة للموضوع الأمني، لعل الاهم فيها هو موضوع «الحرب على الارهاب» والذ ي يتجاوز في الواقع الحالي مخاوف تركيا المعروفة والقديمة من نشاط الانفصاليين الاكراد وخصوصا في جنوب وجنوب شرق الأناضول الى نشاطات يقوم بها متطرفون (من الداخل او الخارج) على غرار ما حدث في اسطنبول حديثا، ما يدفع تركيا الى صوغ علاقات أمنية وثيقة ليس مع سورية فقط، بل مع العراق والبلدان العربية الاخرى، وهو امر تتعدى فوائده ما سبق وصولا الى الموضوع العراقي المملوء بالهواجس الامنية بالنسبة إلى تركيا، مما يدفع تركيا لاتفاقات تتداخل فيها السياسة والأمن في تحديد مستقبل العراق وخصوصا منع قيام دولة كردية فيه، او زرع بذور تأسيس كيان كردي، يمكن ان تنتقل عدواه إلى شرق تركيا.
ان التعبير الأبرز في توجهات تركيا العربية، تمثله نتائج زيارة الرئيس بشار الأسد الى تركيا الشهر الماضي، والتي أخذت في مجرياتها ونتائجها طابعا استثنائيا، ووضعت العلاقات التركية - السورية في اطار علاقات استراتيجية، يحاول الطرفان اليوم الذهاب فيها الى خطوات تنفيذية واجرائية. تركيا في توجهها الى العرب، لا تكشف تشابهها معهم في كثير من همومها ومشكلاتها، بل تؤكد تطابق توجهاتها مع كثير من الدول العربية، لولا فارق اللغة، وتفصيلات أخرى، كثير منها لم يعد مهما في عالم اليوم، كانت تركيا تستحق وصفها بـ «العربية»
العدد 533 - الجمعة 20 فبراير 2004م الموافق 28 ذي الحجة 1424هـ