مع منتصف تسعينات القرن الماضي، بدأت الدولة في المغرب وبفعل ضغوط دولية نحو التحول إلى الديمقراطية «الحقة» بعد عقود من الديمقراطية «الورقية» والمؤسسات المفروضة على الشعب بفعل الأحزاب «الإدارية» التي رسخها «المخزن» عبر انتخابات معروفة النتائج مسبقا.
وتمثل هذا التحول الذي هلل له العالم أجمع بتسليم زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عبدالرحمن اليوسفي مقاليد التسيير الحكومي، بعد سلسلة مفاوضات عسيرة مع العاهل الراحل الملك الحسن الثاني، والتي انبثقت عنها أول حكومة مغربية «غير مخزنية» تكونت من ائتلاف حزبي، شاركت فيه أحزاب «الكتلة الديمقراطية» المكونة من ثلاثة أحزاب يسارية وحزب الاستقلال المحافظ، لتبدأ الحكومة بترسيخ العمل الديمقراطي وتثبيت مؤسساته الشرعية المبنية على احترام الحريات وحقوق الإنسان و الدفاع عنها، لتتعزز أكثر مع سلسلة تغييرات أدخلها القادم الثالث والعشرون إلى العرش المغربي الملك محمد السادس والتي تمثلت أساسا في التخلص من أهم رجالات العهد السابق وعلى رأسهم رجل المغرب القوي آنذاك وزير الداخلية إدريس البصري الذي أشرف على امتداد أزيد من عقدين على الرمي بزينة الشباب المغربي، إلى وراء القضبان ليس خدمة للنظام وحبا فيه بل لخدمة طبقة مرتزقة بعينها عرضت خدماتها مقابل الثروات التي جمعتها على امتداد هذه السنوات، لتعمل مباشرة بعد أن ضاعت السلطة من بين أيديها على تحويل ثروات الشعب نحو الخارج والسعي نحو الحصول على جنسيات أجنبية كما هو حال وزير الداخلية السابق الذي تحدثت أنباء عن رفض باريس تجنيسه بالجنسية الفرنسية.
وبعد سلسلة تغييرات أدخلت على المجالين السياسي والإعلامي بالإضافة إلى تلك التي أدخلت على العمل الحكومي وتخليق الحياة السياسية وهو ما لم يدم طويلا. بدأت النكسة الديمقراطية تلوح في الأفق.
فمع حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، خرجت خفافيش الظلام في البلاد من جديد بعد أن حسبنا أنها باتت «شيئا منسيا» لتبدأ في إعادة الروح إلى التصرفات التي كانت سائدة في العهد السابق على اعتبار أن الضغوط الخارجية انتفت، ولتزداد المأساة المغربية مع حوادث 16 مايو/ أيار 2003 الإرهابية التي هزت الجسد المغربي ورجته رجا، لتعود حياتنا السياسية القهقرى إلى عقدي سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وخصوصا بعد التصويت على قانون الإرهاب، ولتعود الممارسات القديمة المتمثلة في تكميم الأفواه وتكبيل الأقلام ومنع مظاهر الحياة الديمقراطية وعلى رأسها حق الإضراب الذي تكفله نصوص «دستورنا العتيد» المصوت عليه العام 1996 بأزيد من 96 في المئة من مواطني المملكة الشريفة.
وعلى رغم الخطوات الإيجابية والشجاعة التي أقدم عليها الملك الشاب محمد السادس في عدد من مناحي الحياة وعلى رأسها الاعتراف بحقوق المرأة وحمايتها قانونيا ، وترسيخ عدد من الأبجديات الجديدة في الحياة المغربية من قبيل التضامن والمواطنة ومحاربة الفقر، فإن اللوبيات الرافضة للتغيير المتضررة من هذا التحديث، أبت ذلك ووقفت حجر عثرة ضده.
وكانت النقطة التي أفاضت الكأس، والتي جاءت لتؤكد أن عهد ما قبل «التناوب الحكومي» عاد من جديد ليلقي بظلاله البشعة على حياة الشعب المغربي، عندما أقدمت قوات الأمن المغربي على «تأديب» نخبة الشعب من مثقفين وحقوقيين وإعلاميين ومفكرين وأطباء، كان ذنبهم الوحيد أنهم فكروا في الدفاع عن مقومات الشعب وإرث الأمة الحضاري والثقافي وحق أفرادها في العلاج، حتى يأخذ مسئولونا المحترمون هذا في الاعتبار خلال مفاوضات الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة . إذ نقلت وسائل الإعلام الدولية والعربية من خلال صور بشعة تثير الغثيان شوهد فيها شرطي لا يتعدى مستواه التعليمي الشهادة الإعدادية وهو ينهال وبكل نقمة وكراهية على مثقفي البلاد، بعد أن سلخت «عصاه» أجساد حاملي الشهادات العليا من المعطلين ومن بينهم دكاترة على امتداد الأشهر الماضية، وهو ما أثار الخوف من جديد في أفئدة الشعب المغربي حينما رأى تلك الصور والممارسات، والتي ننأى بملك البلاد محمد السادس عنها، لأنه كان ومازال دائم الاهتمام بمثقفي البلاد وفنانيها سواء بشكل مباشر بالإشراف على علاجهم في أهم المراكز الصحية داخل المغرب وخارجها، أو بشكل غير مباشر عبر رعاية عدد من المناسبات الفنية كإشرافه على حفلات عشاء نجوم السينما الدولية والمغربية خلال مهرجان مراكش، أو استقباله الأخير لدى وجوده في القاهرة أهم وجوه الدراما المصرية.
من هنا يجب على من يهمهم الأمر في المملكة المغربية أن يراجعوا أنفسهم وتصرفاتهم بحق هذا الشعب المحاصر بضغوطات وإكراهات الحياة المعيشية قبل أن ينفجر في وجههم، وخصوصا في ظل هذه الممارسات الترهيبية التي كان آخرها ما تعرض له صيادون بسطاء أمام وزارة الصيد البحري صبيحة يوم عيد الأضحى، ذنبهم الوحيد كان هبتهم للدفاع عن لقمة أسرهم وأطفالهم.
إن الممارسات البوليسية هذه التي توشك على أن تحول المغرب إلى دولة بوليسية قمعية وبامتياز لن تجلب للمملكة إلا الويلات وخصوصا أن التجارب أثبتت أن المدافع الأكبر عن البلاد ومصالحها هو الشعب وليست قوات الأمن، ويذكر المسئولون في الرباط، تلك الهبة الشجاعة التي هبها الشعب بعد حوادث 16 مايو الماضي الإرهابية للتنديد بما مس بلادهم من خلال مسيرة الدار البيضاء المليونية التي حملت شعار ما تقيش بلادي /لا تمس بلادي . أما الاعتماد الصرف على أجهزة الأمن فإنه لن ينفع في شيء، وأثبتت التجارب ذلك ، إذ ان قوات الأمن العراقية التي كان يستخدمها النظام في كل مناسبة لقمع الشعب في العراق هي أول من تحول إلى حماية نظام «الاحتلال الأميركي» بعد انهياره، لتعمل على تتبع خيوط المقاومة وإسقاط المنتمين إليها من أبناء الشعب الذي هب للدفاع عن بلاده واستقلالها ، فيما انضوت قوات الأمن تحت لواء الجهة الجديدة «الرابحة»
العدد 531 - الأربعاء 18 فبراير 2004م الموافق 26 ذي الحجة 1424هـ