تقرير «الشرق الأوسط الكبير» يعاني الكثير من الغموض والضبابية والمطاطية في تعيين حدود هذا «الشرق الأوسط». فماذا تعني الكلمات الثلاث «الشرق» و«الأوسط» و«الكبير»؟ وما المقصود بها سياسيا وجغرافيا ودينيا؟ فإذا كان القصد هو تحديد جهة سياسية فالكلمات الثلاث لا تفي بالغرض لأنها تضم جهات متعددة ومتباعدة جغرافيا تمتد من غرب آسيا (الهند) إلى شرق أوروبا وجنوبها. وإذا كان القصد التعبير عن محيط جغرافي (مناخي) فالكلمات الثلاث أيضا قاصرة على احتواء هذا التشتت في عشرات البلدان المتنوعة في ظروفها الطبيعية. وإذا كان القصد هو تحديد جهة قومية أو متجانسة لغويا فالكلمات الثلاث كثيرة ويمكن اختزالها إلى كلمتين: العالم العربي. وإذا كان المقصود من الكلمات الثلاث التهرب من تحديد هوية دينية للشرق الأوسط الكبير فإن الهدف ليس بعيدا عن الوضوح. فهذا العالم باختصار يشمل معظم الدول المسلمة.
والسؤال لماذا تجنب التقرير تسمية «العالم الإسلامي» إذا كان المراد هو هذا الجزء المهم من عالم يسوده الإسلام منذ قرابة 15 قرنا؟
ربما يكون القصد هو الابتعاد عن تضمين هوية دينية للشرق الأوسط الكبير حتى لا يتهم كتبة التقرير بالعنصرية أو بالصليبية أو غيرها من مفردات تحبذ الإدارة الأميركية عدم التورط بها حتى لا تثور المشاعر وترتفع الانفعالات.
هذا جانب من الصورة إلا أن الجانب الآخر يشير إلى وجود سياسات أخرى يمكن فهم القصد منها في حال أعيد قراءة التقرير بروح نقدية. فالتقرير ضائع في هذه المسألة ولكنه واضح في تضمين سلسلة بلدان غير عربية إلى ما يسمى بـ «العالم العربي». وهذه البلدان هي باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا. والبلدان المذكورة هي إسلامية كما نعلم ولكن التقرير أراد تمييع هوية المنطقة في سوق عامة يطلق عليها تسمية غير مفهومة حتى يترك لـ «إسرائيل» مجال الانضمام إلى مقاعد الدول الواقعة بين الخطين يمتد الأول من الهند وينتهي الثاني في المغرب.
الغموض والضبابية والمطاطية تسيطر على عنوان التقرير وهي مسألة مقصودة، والقصد منها التهرب من تحديد المسميات التاريخية - العقدية للمنطقة لتضييع هويتها (العربية - المسلمة) في صيغ اقتصادية عامة تدّعي قول الكثير وهي لا تضيف الجديد إلى القديم. الدول العربية مثلا طالبت مرارا بقيام «السوق العربية المشتركة». وتركيا مثلا في عهد نجم الدين أربكان كررت مرارا مطالبتها بقيام «السوق الإسلامية المشتركة». وأيضا فعل الأمر نفسه الجنرال ضياء الحق حين أكد مرارا ضرورة تشكيل سوق مشتركة إسلامية - عربية تكون باكستان جزءا منها. والكلام نفسه رددته إيران في أكثر من مناسبة آخرها يوم أمس حين جددت إطلاق مبادرة تأسيس «السوق الإسلامية المشتركة» كبديل عن منظمات وهيئات إقليمية كثيرة ومنها «السوق الأوروبية المشتركة».
إذا، ما الجديد في الكلمات الثلاث: الشرق الأوسط الكبير؟ الجديد هو إلغاء مفردات قديمة ترى فيها الولايات المتحدة مصطلحات مزعجة (عرب، إسلام). وكذلك إلغاء أفكار تقوم على فكرة التوحيد (وحدة عربية، وحدة إسلامية، تضامن إقليمي، اتحاد ثنائي أو ثلاثي، مجالس جغرافية تضم سلسلة دول مجاورة). وأهم من ذلك أن مثل تلك المفردات (عرب، عروبة، إسلام، جغرافيا، تاريخ، ولغة) تعني إقفال الحلقة على «إسرائيل» ومنعها من دخول المنطقة من الباب السياسي (التطبيع) والاقتصادي (الطرف الأقوى في المعادلة). فشرط دخول «إسرائيل» دائرة ما يسمى «الشرق الأوسط الكبير» هو إلغاء هوية المنطقة أو شطب الأسماء التي لها صفات أو دلالات أو تشير إلى حقائق ووقائع لا تريد واشنطن تكرارها حتى لا تفشل خطتها الاستراتيجية الكبيرة وهي خطة هجومية لا تقوى دولة مثل «إسرائيل» على حمل مهماتها أو تحمُّل تبعاتها أو تداعياتها.
الغموض والضبابية والمطاطية في الكلمات الثلاث مسألة مقصودة وأساسها أن المشروع هدفه ليس خدمة المنطقة أو مساعدتها على النهوض وإنما العمل على احتواء قوتها وثرواتها وتوظيف أسواقها في إطار لعبة الصراع الدولي على قيادة العالم في المرحلة المقبلة. و«الشرق الأوسط الكبير» هو ميدان اصطراع القوى الكبرى في المدى المنظور
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 531 - الأربعاء 18 فبراير 2004م الموافق 26 ذي الحجة 1424هـ