على مدى ثلاثين عاما ومنذ حصولها على الاستقلال نجحت البحرين في ترتيب أولوياتها طبقا لما تقتضيه المرحلة التي تعيشها من قضايا وتحديات واستطاعت بناء علاقات تعاون وشراكة مع دول العالم المختلفة بما أدى الى تعزيز وترسيخ مكانتها في المجتمع الدولي.
وتعد علاقات مملكة البحرين مع جمهورية فرنسا نموذجا لعلاقاتها الدولية المتميزة لما تحمله هذه العلاقات من معان ودلالات تاريخية وسياسية واقتصادية مهمة إذ يرتبط البلدان بعلاقات وثيقة منذ عقود طويلة من الزمن تمتد لتشمل مجالات التعاون كافة، فضلا عما يجمع بين البلدين من مصالح استراتيجية.
ولعل الزيارة التي يقوم بها رئيس الوزراء صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة الى جمهورية فرنسا اليوم (الخميس) تعكس مدى التقدم والتطور في العلاقات بين البلدين ومدى ما تحظى به البحرين من اهتمام لدى الاوساط الأوروبية والدولية نظرا لما قامت به من اصلاحات على كافة الاصعدة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فضلا عن علاقاتها الخارجية المتميزة مع الدول الأوروبية ومن بينها فرنسا.
من جانب أخر تأتي الزيارة التي يقوم بها رئيس الوزراء لفرنسا في سياق تطورات عديدة البعض منها مرتبط بالعلاقات الثنائية بين البلدين والبعض الأخر مرتبط بتطورات دولية وإقليمية تستلزم التشاور بشأنها.
وتكتسب الزيارة أهمية خاصة بالنظر الى مكانة البلدين ودورهما المميز والفاعل في مجرى الاحداث الاقليمية والدولية، فالجمهورية الفرنسية تتبوأ مكانة مهمة على الساحة الدولية وتضطلع بدور مهم في مختلف القضايا العالمية وهي احدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي فضلا عن دورها القيادي داخل الاتحاد الأوروبي الذي يعد قوة سياسية واقتصادية هائلة وأحد أكبر التجمعات الاقليمية في العالم، فيما تقوم مملكة البحرين بدور محوري مهم في محيطها الاقليمي وهي الآن تترأس الدورة الحالية للقمة العربية.
ومن هذا المنطلق ستتناول المباحثات التي سيجريها سمو رئيس الوزراء مع قادة الجمهورية الفرنسية القضايا المثارة على الساحة الدولية المتعلقة بالأمن والسلم الدوليين مثل حال عدم الاستقرار في العراق والوضع المتردي في الاراضي المحتلة وبحث سبل استئناف المفاوضات السلمية من جديد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
أما على المستوى الثنائي تأتي الزيارة استمرارا لسلسة الاتصالات بين الجانبين في اطار التنسيق والتشاور بينهما بشأن القضايا المشتركة كافة، إذ تشهد العلاقات بين البلدين تطورا كبيرا في مختلف المجالات.
العلاقات السياسية
بدأت العلاقات السياسية بين البحرين وفرنسا رسميا في بداية السبعينات وتمثلت في تبادل السفراء بينهما العام 1974 أي بعد ثلاث سنوات من استقلال البحرين العام 1971. وقد أثبت البلدان قدرتهما على إيجاد مناخ أفضل من التفاهم والثقة ترسخ وتُرجم في تعاون مثمر وصداقة قوية فقد حرصت الحكومات الفرنسية المتعاقبة على التعاون المستمر مع القيادة البحرينية من خلال الزيارات والاتصالات المستمرة لتعزيز العلاقات الثنائية وبحث تطورات الأوضاع في المنطقة وما يطرأ عليها من مستجدات فالبحرين تحتل أهمية حيوية في استتباب الأمن والاستقرار في المنطقة وقد أضفى عليها موقعها الاستراتيجي في الخليج العربي أهمية خاصة نظرا لوقوعها على طرق الملاحة الرئيسية ما جعلها بهذا الموقع عنصرا أساسيا ورئيسيا في أية ترتيبات أمنية إقليمية أو دولية سواء بين دول مجلس التعاون وبعضها البعض أو بينها وبين قوى دولية أو عربية أخرى.
وهناك أسباب كثيرة تدعو البلدين لاقامة علاقات أوثق بينهما لعل أبرزها أن فرنسا تعد من الدول الكبرى في قارة أوروبا وتتمتع بمكانة اقليمية ودولية متميزة كما تقوم بدور مهم وقيادي داخل احد أكبر التجمعات الاقليمية في العالم وهو الاتحاد الأوروبي الذي يرتبط مع مجلس التعاون لدول الخليج العربية والبحرين أحد أعضائه بحوار اقتصادي مشترك ويعتبر شريكا اقتصاديا مهما لدول مجلس التعاون.
ولقد اختطت البحرين منذ إعلان استقلالها العام 1971 سياسة خارجية تعتمد نهجا متوازنا يستند إلى أسلوب الحوار والتفاهم واحترام المواثيق والقوانين الدولية والالتزام بميثاق الأمم المتحدة وعدم التدخل في الشئون الداخلية وحل النزاعات بالطرق السلمية الأمر الذي جعلها تحتل مكانة مرموقة في المجتمع الدولي وتلعب دورا بارزا في تحقيق الأمن والاستقرار بمنطقة الخليج ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة للعالم أجمع.
وفي ظل هذه الأسس والمبادئ التي أسهمت في إيجاد مزايا فريدة عكست مكانة البحرين الدولية ومحورية دورها انطلقت دبلوماسيتها لتؤسس علاقات متشعبة ومتنوعة مع مختلف دول العالم وفي هذا الصدد تلتقي السياسة البحرينية مع نظيرتها الفرنسية إزاء الكثير من القضايا الحيوية الإقليمية والدولية ومنها:
- أهمية العمل على إقرار سلام عادل وشامل ودائم في منطقة الشرق الأوسط على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338 ومبدأ الأرض مقابل السلام. وتثمن البحرين في هذا المجال الجهود الفرنسية المستمرة لإنعاش عملية السلام واستئناف المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي.
- دعم أمن واستقرار منطقة الشرق الاوسط إذ يشدد الجانبان البحريني والفرنسي على أهمية استقرار المنطقة وضرورة حل المشكلات والخلافات الإقليمية بالطرق السلمية.
- اغتنام الفرص التي يوفرها برنامج الحوار الاقتصادي الأوروبي مع بلدان مجلس التعاون للعمل على نشر الازدهار في كل أنحاء المنطقة من خلال تحسين التجارة والاستثمار.
وقد ساعد على نمو وتطور العلاقات بين البحرين وفرنسا في شقها السياسي كثرة وتعدد الاتصالات واللقاءات والزيارات المتبادلة بين البلدين والتي نجد انها مستمرة منذ عهد الامير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة ومن أبرز هذه الزيارات:
- في العام 1976 قام أمير البحرين الراحل سمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة بزيارة لفرنسا دعا فيها الى تشجيع التعاون الاقتصادي بين البلدين وخصوصا ما يتعلق بجذب الاستثمارات الفرنسية الى البحرين.
- في نوفمبر/ تشرين الثاني 1977 قام رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة بزيارة لفرنسا أجرى خلالها محادثات مع الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان استهدفت توثيق العلاقات القائمة في مختلف المجالات.
في مارس/ آذار 1980 قام الرئيس الفرنسي السابق جيسكار ديستان بزيارة للبحرين أسهمت بشكل كبير في فتح آفاق جديدة للتعاون القائم بين البلدين.
- في فبراير/ شباط 1990 قام الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران بزيارة للبحرين أشاد خلالها بالعلاقات الوطيدة القائمة بين البلدين.
- في أكتوبر/ تشرين الأول 1991 قام الامير الراحل سمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة بزيارة لباريس أجرى خلالها محادثات مع الرئيس ميتران تركزت على سبل زيادة أواصر التعاون السياسي والاقتصادي والتجاري والثقافي بين البلدين.
- في يوليو/ تموز 1995 قام جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة (ولي العهد آنذاك) بزيارة لباريس التقى خلالها الرئيس الفرنسي جاك شيراك إذ تم بحث سبل تعزيز العلاقات الطيبة بين البلدين في مختلف المجالات.
- في مايو/ أيار 1998 قام الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة بزيارته الأخيرة لفرنسا وتم خلال الزيارة بحث الكثير من القضايا الإقليمية والدولية التي تهم البلدين.
وقد تواصلت العلاقات الطيبة بين البلدين في عهد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى فقد كانت فرنسا في مقدمة الدول الغربية التي قام جلالته بزيارتها في يوليو 1999 وهي الزيارة التي أولتها فرنسا أهمية خاصة نظرا إلى دورها في دفع علاقات التعاون بين البلدين. وأتبعها جلالته بزيارة ثانية في سبتمبر/ أيلول 2000 حازت اهتمام الأوساط الرسمية الفرنسية نظرا إلى العلاقات المتميزة التي تربط باريس والمنامة، كما قام جلالته بزيارة أخرى الى فرنسا في العام 2001 بحث خلالها مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك سبل تطوير وتنمية العلاقات الودية القائمة بين البلدين وتعزيز تعاونهما المشترك في المجالات الاقتصادية والتجارية، كما تم بحث إمكان استفادة البحرين من الخبرات الفرنسية في وضع التصورات الخاصة بنواحي التطوير والتحديث الدستوري.
التعاون في المجالات العسكرية والأمنية والقضائية
يرتبط البلدان بعلاقات تعاون وطيدة في المجال العسكري وقد مهدت الزيارة التي قام بها الملك حمد بن عيسى آل خليفة لفرنسا العام 1979 حينما كان وليا للعهد لإقامة هذا التعاون العسكري الوثيق بين البلدين والذي ازداد بصورة كبيرة بعد حرب الخليج الثانية وخصوصا في مجال تبادل الخبراء والتدريب والإعداد لبرامج تمارين عسكرية مشتركة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك تعاونا فرنسيا بحرينيا في المجال الأمني يتمثل في تبادل المعلومات الاستخبارية في مجال مكافحة الإرهاب.
أما في المجال القضائي فهناك تعاون بحريني فرنسي في مجال التدريب القضائي وفي مجال النيابة العامة إذ تم إيفاد عدد من أفراد النيابة العامة في دورات تدريبية في فرنسا بهدف الارتقاء بالمستوى المهني ومهارات التحقيق الجنائي.
العلاقات الثقافية والتعليمية
تأكيدا لأهمية توثيق العلاقات الثنائية في شتى المجالات التعاونية بين البحرين وفرنسا فقد تم تشكيل لجنة بحرينية فرنسية مشتركة للتعاون الثقافي والعلمي والتقني وذلك خلال الزيارة الرسمية التي قام بها الامير الراحل سمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة لفرنسا في العام 1976، وقد عقدت هذه اللجنة تسعة اجتماعات كان آخرها العام 2001 تناولت بالبحث الكثير من الموضوعات الخاصة بالتعاون اللغوي والتربوي والتعاون الثقافي والعالمي والسياحي والتعاون في مجال تدريب الكادر الدبلوماسي والتعاون مع جامعة البحرين. وترتبط البحرين مع فرنسا في هذا المجال بالاتفاقية الثقافية الموقعة بين البلدين في العام 1977.
وفي مجال التعليم فقد تم إدخال تدريس اللغة الفرنسية في المراحل التعليمية بالبحرين.كما تم افتتاح المدرسة الفرنسية أثناء الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان.
علاوة على ذلك، فإن هناك عددا من الاندية الثقافية والتعليمية الفرنسية في البحرين والتي تحظى بكل الدعم والرعاية من قبل الحكومة البحرينية. كما توجد أعداد من الطلبة البحرينيين الدارسين في مختلف الجامعات الفرنسية.
التعاون في المجالات السياحية
هناك تعاون فرنسي بحريني في مجال الآثار إذ ساهمت فرنسا في الكشف عن جانب كبير من تاريخ وآثار البحرين، كما مثلت إقامة معرض «دلمون» بالعاصمة الفرنسية باريس تظاهرة آثارية بحرينية عالمية ساهمت إلى حد بعيد في التعريف بالحضارة البحرينية.
علاوة على ما ذكر سابقا، فان هناك الكثير من مجالات التعاون الأخرى بين البحرين وفرنسا مثل الزراعة إذ تتم الاستفادة في البحرين من الخبرات الفرنسية في إعادة استخدام مياه المجاري للري وتطوير أساليب الزراعة المحمية وفي مجال الشباب والرياضة فهناك اتفاق تعاون بين البلدين تم توقيعه العام 1980 وفي مجال الصحة هناك بعض الاتفاقات المشتركة في هذا الشأن.
إن ما لا شك فيه أن هناك آفاقا رحبة لتطوير العلاقات الثنائية بين مملكة البحرين وجمهورية فرنسا على مختلف الاصعدة وستسهم الزيارة الحالية التي يقوم بها رئيس الوزراء صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة لفرنسا في تحقيق هذا الهدف المهم والرغبة المتبادلة من البلدين في تطوير وتوثيق العلاقات بينهما وخصوصا في ضوء توافر الكثير من العوامل التي تشكل قوة دفع لهذه العلاقات والتي من أهمها توافر الإرادة السياسية المشتركة و الرغبة الجادة في تبادل المنافع المتاحة
العدد 531 - الأربعاء 18 فبراير 2004م الموافق 26 ذي الحجة 1424هـ