مثل لعنة الفراعنة قديما، أصبحت لعنة صدام حسين حديثا، هي حديث المجالس شرقا وغربا، فإن كان المعروف عن لعنة الفراعنة أنها تقتل جسديا، فإن لعنة صدام قتلت جسديا، وها هي تقتل الآن معنويا وسياسيا وأدبيا...
غير أن الخراب والدمار والدماء التي يغرق فيها العراق والعراقيون الآن، هي أفظع أنواع القتل المادي والمعنوي، وهي استمرار لدمار ودماء مارسه نظام صدام ضد شعبه وجيرانه على مدى نحو ثلاثة عقود، فقلب الموازين وانتهك المعايير، حتى أصبح الغزو الأميركي للعراق واسقاط النظام هو الحل «الديمقراطي الوطني» الوحيد، كما وصفه بعض الساسة العراقيين الحاليين.
هكذا، فإن السبب كان نظام حكم قهري دكتاتوري، والنتيجة هي احتلال أجنبي طاغٍ، كلاهما وجد في القتل متعة حقيقية تعبر عن سعادة شاذة.
غير أن لعنة صدام مازالت تزلزل المسرح العراقي والعربي والدولي، بسبب ما خلّفته من مآس تراكمت، وها هي تفرز يوما بعد يوم آثارا بالغة الغرابة والإثارة، لعل أشدها وقعا، ذلك الزلزال السياسي الذي يهز عاصمتي الحرب والغزو، واشنطن ولندن، بسبب انفضاح المبرر الرئيسي الذي ساقه في تنسيق كامل، الرئيس الأميركي بوش، ورئيس الوزراء البريطاني بلير، لشن الحرب وهو تدمير أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها نظام صدام.
بعد تنسيق دولي وبحث أميركي وتنقيب بريطاني، وبعد تقارير المراقبين الكبار رؤساء فرق التفتيش في العراق، سكوت ريتر، ومحمد البرادعي وفريقه، وايكيوس، وهانز بليكس، ثم أخيرا ديفيد كاي، ثبت أن رئيس أميركا ورئيس وزراء بريطانيا كذبا على شعبيهما وعلى العالم، وتحديا الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة، وانتهكا القانون الدولي علنا، وشنا الحرب بحجة لا وجود لها ولسبب غير مؤكد.
وفي المجتمعات الديمقراطية، حين يضبط المسئول متلبسا بالكذب والتضليل، يستقيل أو يقال، «وربما ينتحر خجلا»، لكن بوش وبلير استغلا سماحة الديمقراطية، وأمرا بالتحقيق في المعلومات المضللة التي قدمتها المخابرات المركزية الأميركية، والمخابرات البريطانية، بشأن تأكيد وجود أسلحة دمار شامل لدى النظام الصدامي، وصولا للادعاء بأن هذا النظام يمتلك أسلحة، يمكن أن تنطلق محملة بمواد نووية أو كيماوية خلال 45 دقيقة فقط من الأمر بإطلاقها، وهي كفاءة لا تتوافر إلا لقوى النادي النووي الست الرئيسية في العالم!
ومن الواضح أن لعنة صدام، لم تعد مكتفية بما خلفته في العراق من قهر ومذابح وحروب ومقابر جماعية، لكنها تعدت الحدود وها هي تطول واشنطن ولندن، لتضرب صدقية النظامين السياسيين هناك كالزلزال، ولتضع زعيمي غزو العراق في قفص الاتهام والتهمة معلقة على الرقاب، ألا وهي الكذب على الشعب، وتضليل الرأي العام العالمي وارتكاب جريمة الحرب من دون مبرر قوي ثابت، وتهمة الكذب هذه قد تكون سهلة ومتعارفا عليها في عالمنا، وخصوصا السياسي، لكنها تهمة مرذولة في عالم الغرب، تودي بصاحبها إلى التهلكة في الغالب، إن سار القانون في مجراه، وإن أفلتت القضية من مناورات الكواليس.
وبغض النظر عن نتائج لجان التحقيق، التي لن تظهر قبل سنوات، فإننا نعتقد أن لعنة صدام، التي جلبت بوش الأميركي وبلير البريطاني، إلى مصيدة الكذب والخداع والتضليل، ليس في تهمة سرقة سوبرماركت، أو تفجير ملهى ليلي، ولكن في شن حرب رهيبة، جلبت الدمار والخراب والدمار على الشعب العراقي، وسببت هزة زلزالية كارثية في المنطقة العربية، وانتهكت أبسط حقوق الإنسان، وهو حق الحياة الحرة، بعد أن أوقعت آلاف الضحايا، هي لعنة ستطارد المسئولين في النظامين السياسيين الأميركي والبريطاني إلى آماد طويلة، ليس بسبب «بركة» صدام، الذي نسبه المنافقون يوما إلى السلالة المحمدية، ولكن بسبب لعنته!
أما لعنة صدام الثانية، فهي الأكثر إثارة في عالمنا، الذي يعشق الإثارة، ويحب الإشاعة ويتداولها بمتعة حقيقية، لأنه لا يملك الحقيقة المؤكدة والخبر الموثق، وحين يغيب هذا الخبر والحقيقة، تولد الإشاعة وتكبر وتتضخم، حتى تصبح في نظر الناس هي الحقيقة المؤكدة، على عكس ما يجري في المجتمعات الديمقراطية، التي تقدس حرية المعلومات وتحترم الحقائق، وتلتزم بالشفافية والمصارحة في كل الأمور، حتى لو كانت تتعلق بكذب الرئيس أو الوزير أو الخفير.
وما نعنيه هنا، هو الضجة الكبرى، التي أثارتها صحيفة «المدى» العراقية الجديدة، التي يصدرها في بغداد الزميل العائد فخري كريم، بنشرها يوم 25 يناير/ كانون الثاني 2004، قائمة تضم 262 اسما لأشخاص وشركات عربية ودولية، ووصفتها بأنها القائمة الأولى لرشا صدام حسين لهؤلاء، والتي كانت على شكل كوبونات، يعطيها الشخص بكمية من النفط العراقي، يبيعها كيف يشاء!
وهذه تهمة خطيرة، لأنها رشوة تكتسب طابعا سياسيا، وتزداد خطورتها لورود أسماء رنانة فيها، مثلما يزداد الغموض حولها، نتيجة عدم التحقق الموثق من صحتها، وكما أنها تثير الشكوك حول أسماء «المرتشين» المتهمين، فإنها تثير الشكوك حول موجهي التهمة ومسربي القائمة وأهداف النشر، وما يستجد من قوائم وقوائم مضادة، تحوم حولها وبها الإشاعات أحيانا، وتغرق الحقائق غالبا.
ولعلنا في مصر تحديدا نتذكر، أن حكايات قوائم الرشوة هذه قديمة تتجدد في كل مرحلة تغير أو اضطراب سياسي، وترافق غالبا تغير الحكام، وأتذكر أن أول مرة سمعت فيها عن هذه القوائم السوداء كانت بعيد قيام ثورة يوليو/ تموز 1952، حين أذاع مجلس قيادة الثورة، «قوائم المصروفات السرية»، التي قال إن وزارة الداخلية في العهد البائد، كانت تصرفها لبعض الصحافيين والسياسيين، الذين جرى تجريمهم، ومحاكمة بعضهم.
لكن قوائم «كشوف البركة» التي شاعت في الثمانينات والتسعينات، كانت الأكثر ضجيجا، حين تداولها البعض، حاملة أسماء مسئولين وسياسيين وصحافيين، كانت شركات توظيف الأموال تقدم اليهم الرشا عبر أساليب ربحية غير قانونية وغير أخلاقية... وهكذا الوضع دائما، في كل نظام، من النظام الأميركي «الديمقراطي جدا، إلى نظمنا غير الديمقراطية، الكل سواء في استخدام الرشا وتجنيد العملاء والحلفاء، وبناء مكنات الدعاية ونشر الإشاعات والأكاذيب وترويج الأباطيل، تدعيما لسياسة وأهداف ومصالح، بل وتلميعا لوجوه الحكام، واقرأ في هذا الملف مئات من الكتب العربية والدولية، أذكر منها على سبيل المثال، كتاب «لعبة الألم»، وكتاب «التحالف الأسود بين المخابرات الأميركية والصحافة»، وكتاب الاستاذ هيكل الشهير «بين الصحافة والسياسة»، وكتاب «الحرب الباردة الثنائية»، وكلها تتحدث عن تجنيد بعض السياسيين والصحافيين والأدباء لترويج الدعاية وتسويق الحكام وإحكام المؤامرات!
وعلى رغم أن نظام صدام حسين لم يكن فريدا أو وحيدا في اتباع هذه الوسائل السياسية، التي تحمل من الفساد والافساد الشيء الكثير، فإنه قد يكون نموذجا صارخا لتبديد ثروة بلد غني في ظل نظام دكتاتوري دموي، يسعى الى تجميل صورته أمام الآخرين، وتقديس حاكمه رغبا ورهبا، ومن ثم استغلال سلطة المال لتدعيم سلطة الحكم، بشراء الذمم الضعيفة والضمائر المباعة في كل مزاد، الساعية من ناحيتها الى زيادة المال والنفوذ وربما الوجاهة والشهرة.
ونذكر أن عقدي السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، شهدا صراعا شرسا بين نظم وحكومات عربية، لإنشاء وشراء صحف ومجلات وإذاعات وصحافيين وسياسيين من كل المستويات، ليس تدعيما لحرية الصحافة والرأي والتعبير، ولكن للترويج والتبرير، وتلميع الوجوه العكرة والمستبدة، وعلى صفحات هذه الصحف وموجات الإذاعات، وعبر المهرجانات الشعرية والأدبية والفنية، صدحت أصوات عالية وصرخت حناجر، وارتجت المنابر بخطابات المنافقين، يحولون الاستبداد إلى ديمقراطية، والقهر إلى عدل، والخيانة إلى وطنية، والقتل الجماعي إلى قصاص عادل، والفساد واستغلال الثروة واحتكار الحكم، إلى رفاهية وجنات وارفة الظلال، وصدرت مئات الكتب التي لايزال بعضها لدى الكثيرين منا، ترقى ببعض الحكام الفاسدين إلى درجة الأنبياء والقديسين والأولياء الصالحين!
ولم يكن ذلك كله إلا نتاج ثقافة النفاق والفساد والتخلف والاستبداد التي نعايشها ونكابدها، سقط بسببها البعض من السياسيين والصحافيين والكتاب والفنانين، تحت مطارق الترهيب أو الترغيب، ولكن في المقابل استعصم الكثيرون، فأبوا الاغراء وقاوموا التهديد ونأوا بأنفسهم عن السقوط في مخالب الفساد والافساد.
لذلك نقول في مواجهة لعنة صدام بكوبونات رشا النفط، المتداولة هذه الأيام، أولا إننا لا نستبعد لجوء ذلك الحاكم الى مثل هذه الأساليب، فطالما سمعنا قبل سقوطه أقاويل عدة عن عطاياه، من الأموال السائلة والسيارات الفارهة والمساكن الفخمة، وثانيا لا ننكر أن حكاما وحكومات غيره فعلت ومازالت تفعل الشيء نفسه وربما أكثر، لكن السر كاتم للأصوات، حتى يسقط الحاكم ويفتضح السر، وثالثا نعرف جيدا أنه في غياب الحريات والشفافية والمعلومات المنسابة بحرية، تصبح الإشاعة سيدة المجالس، وتصبح الإحن والمكايدات والخصومات السياسية الشخصية، أهم أسلحة المنازلة وتصفية الحسابات، ورابعا ندرك أن الشعب العراقي، وتحديدا بعض قواه السياسية التي كانت مطاردة أو مضطهدة في الماضي، وعادت الآن إلى وطنها، تتميز غيظا من كل من ساند أو أيد أو صمت على مظالم العهد السابق، ومن ثم فإنها ترى أن من حقها أن تنتقم الآن حتى بالتشهير والتجريس. وخامسا نؤكد أن من حق الرأي العام العراقي والعربي، والدولي أيضا، أن يعرف الحقيقة كاملة عن هذه اللعنة الصدامية، المسماة برشا كوبونات النفط، من خلال تحقيق قانوني قضائي عادل، لا يقل أهمية عن التحقيق في أكاذيب المخابرات التي قادت أميركا وبريطانيا إلى غزو واحتلال العراق!
بقيت أمامنا نقطة مهمة في هذا الصدد، وهي تتعلق بالجانب المهني والأخلاقي للصحافيين والكتاب وأصحاب الرأي، فبحكم أنهم كذلك - أصحاب رأي وموقف - فهم الأكثر عرضة للترغيب والترهيب، الإغراء من جانب من يؤيدونهم مقابل الارهاب من جانب من يعادونهم، ولذلك فإن عملهم اختبار قاسٍ لقوة الضمير والمقاومة المتعددة الاتجاهات. وانطلاقا من هذه النقطة، فإنني أعرف على سبيل المثال، كثيرين ممن ساندوا الشعب العراقي خلال الحصار القاسي الذي طال لأكثر من عقد وجوّع وقتل أطفاله، وأعرف أن نواياهم كانت نبيلة، حتى ولو نزلوا بطائراتهم إلى بغداد في ظل - وربما ضيافة نظام صدام، وبالقدر نفسه اعرف أنهم لم يرتشوا من هذا النظام، ولم يبيعوا ضمائرهم الوطنية ومشاعرهم القومية بكوبونات نفط أو شيكات مال...
ولذلك فالخطر كل الخطر، في هذه المرحلة المضطربة التي نمر بها، خلط الصالح بالطالح والصدق بالكذب، والنزيه بالفاسد... ومن ثم فإننا نتمنى ونقترح إجراء تحقيق قانوني مستقل عادل ونزيه، في قضية رشا صدام حسين وعطاياه، يوضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وينصف من قبض على ضميره كمن هو قابض على الجمر، ويحدد من باع ضميره لشيطان صدام أو أي شيطان آخر، ليس بهدف الانتقام والتشهير، ولكن بهدف إظهار الحقيقة نبراسا لأجيال قادمة، يجب أن تتعلم كيف تحمي ضمائرها من مخالب الشياطين.
مجرد لجنة تحقيق... اقتراح أهديه إلى اتحاد الصحافيين العرب، واتحاد المحامين العرب، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان... وإلى الرأي العام فقط!
خير الكلام: قال الجواهري شاعر العراق الكبير:
ولا تدعوا الخصام يجوز حدّا
بحيث يعود رخصا وابتذالا
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 530 - الثلثاء 17 فبراير 2004م الموافق 25 ذي الحجة 1424هـ