حوادث كثيرة خلال الأسابيع الماضية تشير إلى عودة الحديث عن «القومية» و«السيادة الوطنية» بشكل غير معهود وغير ملائم لوضعنا أو تاريخنا. ففي احتفال يوم قوة الدفاع واثناء العرض الموجز لتاريخ البحرين كان محور الحديث يدور عن «قومية» عربية في البحرين صدت اطماع الآخرين. وهذا حديث متقدم على زمانه، لان «القومية» سواء كانت عربية أو غير عربية لم تكن معروفة قبل قرنين ونصف من الزمان بالشكل الذي نعلمه الآن. ولذلك فإنه حديث متقدم جدا على المفهوم.
ثم كان الحديث لاحقا عن أمور أخرى تتعلق بـ «القومية» والسيادة الوطنية، وبعضها مفهوم وآخر غير مفهوم. ووصل الأمر إلى إعلان دولة الكويت منعها عددا من البحرينيين (ربما 7 أشخاص) من بينهم اثنان من رؤساء الجمعيات السياسية بدواعي «قومية» وبتبرير يتحدث عن «السيادة الوطنية». وهذا حديث متأخر جدا على المفهوم.
بادئ ذي بدء فإن مفهوم «القومية» الحديث (السيادة الوطنية) هو احد المفاهيم الحديثة التي بدأت تأفل في المكان الذي تم اختراعه فيه اي أوروبا. فالفرنسيون هم الذين اخترعوا هذا المفهوم تنظيرا وتطبيقا وبعد الثورة الفرنسية أصبح المفهوم منتشرا ومقبولا في كل انحاء العالم. والثورة الفرنسية كانت في العام 1789م وهي سنة متأخرة عن الحقبة التاريخية التي تم استعراضها في يوم قوة الدفاع.
فما عُرض عن فترة سابقة لهذا التاريخ يوحي بأن مفهوم القومية والسيادة الوطنية «صناعة بحرينية» وهو امر لن يحصل على موافقة علماء السياسة.
فالقومية بدأت في أوروبا كمفهوم نظري قبل 4 قرون للوقوف امام طموح «البابا» الذي كان يتدخل في شئون ملوك اوروبا وإماراتها باسم الدين. ثم طرح موضوع متصل بالقومية وهو السيادة الوطنية في فرنسا لوقف التوسع الامبراطوري الإسباني في منتصف القرن السادس عشر. فقد كانت إسبانيا أغنى دولة بعد استيلائها في ذلك القرن على الذهب والفضة في أميركا الجنوبية، وكانت تستطيع غزو الدول المجاورة. ولذلك كان أول كتاب ينظر بعمق لمفهوم السيادة الوطنية صدر لأحد فلاسفة فرنسا (جين بودين) العام 1576م داعيا لحماية السيادة الوطنية الفرنسية لمواجهة الاطماع الإسبانية. وذلك الطرح النظري لم يستطع الفرنسيون تطبيقه عمليا إلا مع الثورة الفرنسية العام 1789م.
ولكن الفرنسيين ومعهم الاوروبيون هم أول من يهاجر المفهوم ويغادره إلى غير عودة مع إعلان الاتحاد الأوروبي واستحداث مفهوم جديد يتحدث عن المواطنة الأوروبية التي بدأت تعلو على المواطنة الاصغر لفرنسا وايطاليا وألمانيا...الخ.
مفهوم الدولة القومية والسيادة الوطنية إذن في طور التغيير ولم يعد كما هو مطروح في الكتب التي صدرت وكتبت في الدساتير منذ الثورة الفرنسية في العام 1789م. ولكن يبدو اننا نستخدم المفهوم في أوقات ضائعة، مرة قبل أن يتبلور المفهوم، ومرة بعد أن تغير إلى طرح آخر لأنه لم يعد هناك ما يستدعي استمراره في عالم اليوم الذي تحول إلى «قرية صغيرة» محكومة بضوابط اقتصادية معولمة (منظمة التجارة الدولية تنقل وحرية الأموال واتفاقات التجارة الحرة) وضوابط سياسية معولمة (انتشار مفاهيم حقوق الانسان والشفافية والديمقراطية والمعلومات... الخ)، وهذه جميعها من شأنها تخطي مفاهيم «القومية والسيادة الوطنية» التقليدية التي انتشرت منذ الثورة الفرنسية وحتى السبعينات من القرن الماضي
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 530 - الثلثاء 17 فبراير 2004م الموافق 25 ذي الحجة 1424هـ