نص التقرير الذي رفعته الولايات المتحدة عن «الشرق الأوسط الكبير» إلى الدول الصناعية الثماني يعتبر فضيحة سياسية - خلقية ليس لأن التوصيف (قراءة النتائج) غير صحيح بل بسبب قلبه الحقائق من خلال قطع الصلة الزمنية بين البدايات والنهايات. فالقطع مقصود لأنه يفصل بين المقدمة والنتيجة والأسباب المتعددة التي أدت إلى ما وصفه التقرير بالمشكلات التي يعاني منها هذا العالم الممتد من الهند إلى المغرب. والتقرير مثلا يتحدث عن نقص في إنتاج الكتب والترجمات عن لغات أجنبية (1,1 في المئة من الإنتاج العالمي)، ويشير إلى وجود 40 في المئة من الأميين، ويذكر أن 1,6 في المئة فقط يستخدمون الانترنت، وان هناك 53 صحيفة فقط لكل ألف مواطن، وأن الدولة تحتكر الإعلام وتسيطر على الصحف وتوجهها، وأن ربع الخريجين من الجامعات لا يجدون عملا فيضطرون إلى الهجرة إلى بلدان أخرى، وان معظم الشباب يريد السفر إلى الخارج بحثا عن وظيفة أو لقمة رزق، وان 3,5 في المئة من النساء يشغلن مناصب برلمانية بينما النسبة في افريقيا تصل إلى 8,4 في المئة، وأن دخل الفرد في اليوم لا بزيد على دولارين، وأن مجتمعات «الشرق الأوسط الكبير» تعاني من نسبة نمو سكاني وزيادة في تعداد العاطلين عن العمل، وان مجموع الدخل المحلي لدول «الشرق الأوسط الصغير» أقل من مجموع دورة الإنتاج السنوية لدولة أوروبية واحدة مثل إسبانيا.
وأن، وأن، وأن... والحل كما يذكر التقرير هو في «التنمية البشرية» وزيادة معدل دخل الفرد من دولارين إلى أربعة دولارات، ورفع نسبة النمو من 3 في المئة كما هو الحال الآن إلى 6 في المئة في المستقبل.
وحتى يحقق «الشرق الأوسط الكبير» مثل هذه الزيادة في الدخل وهذا المستوى من النمو يقترح التقرير سلسلة علاجات نظرية مثل دعوته إلى اجراء خطوات إصلاحية تشمل الديمقراطية، وتطوير مجتمع المعرفة، وتوسيع الفرص الاقتصادية، وإطلاق الحرية. والأخيرة تتضمن سلسلة اقتراحات نظرية أخرى من نوع التشجيع على الانتخابات الحرة، وانشاء معاهد تدريب خاصة بالنساء للمشاركة في الحياة السياسية، وإصلاح النظام القانوني (المدني، الجنائي، والتشريعي) والدعوة إلى الشفافية ومكافحة الفساد.
هذا الكلام ليس جديدا إذ نجد ما يشبههه وأحسن منه في الكثير من أدبيات القوى السياسية ومنظمات حقوق الانسان وهيئات المجتمع الأهلي والمؤسسات المدنية والاتحادية والنقابية. فهذا الكلام من الصعب تسويقه في عالم شهد طوال نصف قرن سلسلة هزات سياسية وتقلبات نقلت معها الكثير من التجارب والبرامج من الشارع إلى السلطة أو البرلمان بوسائل انقلابية أو ديمقراطية ولعبت واشنطن دورا سلبيا في إفشالها أو إسقاطها وهذا ما يمكن تعداده في عشرات البلدان العربية والمسلمة من الهند إلى المغرب. هذا الكلام الذي تريد الولايات المتحدة تصديره الآن إلى «الشرق الأوسط الكبير» حاربته واشنطن بالحديد والنار طوال نصف قرن من السياسات الدولية. فأميركا طوال زمنها المعاصر لخصت استراتيجيتها في «الشرق الأوسط» في مهمتين: الأولى محاربة نفوذ الاتحاد السوفياتي ومكافحة الشيوعية بمختلف الوسائل والأدوات والايديولوجيات. والثانية دعم «إسرائيل» من دون تردد في كل حروبها وسياساتها الاحتلالية والاستيطانية بغية إذلال الدول العربية واهانة المسلمين من الهند إلى المغرب.
الآن تريد الواشنطن القول انها عدلت سياستها وبدلت استراتيجيتها وباتت تميل إلى دعم الحركات الاصلاحية والتنويرية مستخدمة في ذلك برامج واقتراحات ومناهج تحديثية وتطويرية اقرتها مرارا قمم الدول العربية ولم تنفذها حتى الآن بسبب الضغوط التي كانت تمارسها واشنطن على بعض الأنظمة ومنعها من السير في ركاب المجموعة العربية وقرارات جامعة الدول. وهذه الضغوط يمكن الاطلاع عليها من خلال مراجعة مذكرات عشرات القادة العرب الذين سبق لهم وخدموا في المؤسسات الرسمية بصفة سفراء أو قناصل أو وزراء أو مستشارين.
الآن تريد الواشنطن استبدال قناعها بقناع جديد بهدف زعزعة الاستقرار الاقليمي والدفع نحو التطبيع مع «إسرائيل».. وبذريعة تقول انها تطمح إلى خير المنطقة وتطويرها كما فعلت (وهنا المضحك المبكي) في أفغانستان والعراق. فأميركا ترى أن استراتيجيتها نجحت تماما في أفغانستان والعراق (تفكيك الدولة واطلاق الفوضى السياسية والأمنية) وهي تريد نشر هذا النموذج «الناجح» في بقية الدول العربية والإسلامية من الهند إلى المغرب. وهو موضوع آخر للنقاش
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 528 - الأحد 15 فبراير 2004م الموافق 23 ذي الحجة 1424هـ