مازالت تجربة الثورة في إيران وما رَشَح عنها من نظام سياسي قِيَمي وإفرازات مُستحدثة على فقه الدولة الحديث محل نقاش وجدل بين الكُتّاب والمفكرين، ومراكز دراسات وبحوث متعددة في الغرب الأنغلوساكسوني لمعرفة الأفكار والأطروحات الناشئة التي امتزج فيها الحس الثوري الطوباوي ونظريات الخطاب الدوغمائي من جهة والتأصيل الديني المحاذي لمسحات العصرنة السياسية من جهة أخرى، كما أن التساؤل المهم المثار حاليا هو عن جدوائية العمل بنظام ديني متصالح بين الأرض والسماء وسط تجارب علمانية مهيمنة... عن هذا الموضوع كان لنا هذا الحوار مع السيد هاني فحص أحد المفكرين اللبنانيين البارزين الذي كوَّن علاقات مبكرة مع بعض قيادات الثورة إذ أقام في طهران منذ العام 1982 حتى 1985 وكان مسئولا ثقافيا في مكتب أئمة الجمعة والجماعة في رئاسة الجمهورية، كما كان قريبا من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي حين استوزرها خاتمي، وشارك أيضا في إعلام الحوزة في قم.
بعد خمسة وعشرين عاما على انتصار الثورة الإسلامية في إيران أين وصل نموذج الدولة في إيران خصوصا وأنه ومنذ الثورة البيضاء في إنجلترا والثورة الفرنسية رَشَحَ نظام سياسي متقدم لشكل الدولة يتمثّل الآن في معظم دول الغرب؟
- اكتشفنا مع التجربة الإيرانية بأنه لم يكن في ذهن قيادة الثورة نموذج محدد، بل كانت هناك أفكار عامة، وهذا برأيي شيء إيجابي وليس سلبيا لأنني ضد تنميط الدولة التي هي مؤسسة اجتماعية منشأها التاريخي والنظري كونها ضرورة اجتماع هذا يعني أنها لا بد أن تتطابق مع جميع الخصوصيات ومع العموميات أيضا بمعنى أن تتأثر بزمانها ومكانها وتكوين المجتمع الذي تريد أن تحكمه من الداخل ثقافيا وإداريا... إلخ... ولذلك كما قلت ليس عيبا أن نقول إن التجربة الإيرانية حتى الآن هي التجربة التجريبية بمعنى أنها لا تقوم على تطبيق أطروحة محددة بل أفكار عامة بالاختبار، ولكن في تقديري أن أهم ما أنجزته الثورة الإيرانية حتى الآن هو إثباتها بأن الشمولية الإسلامية والمركزية الإٍسلامية الشديدة غير ممكنة وأن الديمقراطية ضرورة... وفي هذا المجال التجربة الإيرانية ليست فاشلة، إنني أذكر أيام الحرب العراقية الإيرانية كان وضع إيران داخليا وخارجيا نوعا ما صعبا في الوقت الذي كان فيه الإمام الخميني يمتلك بما فيه الكفاية من القوة والصدقية فطرح بعض المعنيين بإيران بأنه لا حاجة لإجراء انتخابات تشريعية في هذه الظروف خصوصا وأن الإمام الخميني لايزال موجودا وهو الولي الفقيه وسنرضى بما يقوله من تعيينات في البرلمان وفي مواقع الدولة الأخرى، فكان رده عنيفا قائلا بأنه إذا تعطلت الانتخابات انتهت الثورة لذلك فيجب أن نُجري الانتخابات ولو بين القذيفة والقذيفة.
هذا التمسك بالديمقراطية مريح، يُضاف إلى ذلك أنني شخصيا قد أكون أقرب إلى الخط الإصلاحي مني إلى الخط المحافظ ولكنني غير متحزب للإصلاحيين. إنني أتساءل كم انتخابات حصلت أثناء الصراع بين المحافظين والإصلاحيين انتخابات رئاسية مرتين وانتخابات بلدية مرتين ومجلس خبراء القيادة مرة واحدة وانتخابات نيابية مرتين وكان بإمكان المحافظين وهم حُكّام وممسكون بالمؤسسات السيادية كالحرس الثوري وقوى الأمن والجيش والقضاء أن يلغوا الانتخابات ويبطلوها أو يعملوا أي شيء لكنهم لم يفعلوا، على رغم أنني لا أنفي أن يكون هناك اتجاه محدود بين المحافظين كان يريد أن يُغيّر في نتائج انتخابات الرئاسة الأولى إلاّ أنه لم يفعل ذلك، لذلك فإنني ومن منطلق أخلاقي أوجّه تحية للمحافظ الإيراني لأنه لم يعبث كما عبث غيره أما من أين تأتي هذه المسألة برأيي تأتي مما يمكن أن نسميه ضمانة الواقع الإيراني والمستقبل الإيراني لأنني في هذا الحيثية أرتاح لإيران ليس من موقع التعصب لها أو الدفاع عنها بل لأن فيها مجتمعا حيويا ومتعدد الحيويات وأبرز مظاهر حيوية المجتمع الإيراني هو أنه لا ينتظر الدولة حتى تفكر له بل هو يفكر أولا ويُجبر الدولة على اللحاق به وبالتالي فإن جدل الدولة والمجتمع جدل مستمر وغير معطّل وحتى ولاية الفقيه ومسألة الدين لم تمنع هذا أبدا بل أثبت الشعب الإيراني أنه يفهم الدين فضاء لا حصارا لأن هناك من إذا فهم الدين حصارا خرج عن ذلك الحصار وحاول تهديمه، هذا لا يعني أنه ليس هناك أخطاء من هذا النوع ولكن المهم هو أن الحالة هكذا... لقد بات الدين في إيران فضاء يَسَعُ الجميع يَسَعُ المعارضة ويسع غير المتدينين أيضا، يُضاف إلى ذلك أنه متعدد الحيويات كما قلت وكأنما حصل هناك نوع من التواطئ بين الدولة والمجتمع بحيث يُترك الأخير لأن يمارس حيوياته في كل المجالات في الأدب في الفن والفكر والاجتماع والاقتصاد والسياسة وهذا التواطئ الآن (بما فيها حدوده) أخذ يهتز، لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن هناك مربعا يجب عدم الضرب عليه وهو مربع السلطة وقد مضت الأمور في إيران هكذا في الفترة الأخير بما فيها فترة المشروع الإصلاحي.
وماذا عن التجربة السياسية للدولة الدينية في الجمهورية الإسلامية، خصوصا وأنك أشرت إلى أنها تعتبر التجربة التجريبية؟
- ما ذكرته سابقا هو على مستوى واحد من مستويات التجربة، المستوى الآخر في التجربة الإيرانية يكمن في تجديد السؤال بشأن الدولة الدينية، أنا برأيي أن إيران تقدم الآن دليلا عمليا ونظريا على عدم إمكان الدولة الدينية بالمفهوم الكلاسيكي بمعنى أن إيران هي الآن تُثبت أن ما وصفه الإسلام ليس دولة بل الذي وصفه هو مجتمع، والإسلام بدوره يتعامل مع الدولة كضرورة اجتماع تُقدَّر بظروف وهذا ما يمكن أن نقرأه في النص وفي تاريخ العهد الراشدي على الأقل، لأن مجموع الحوادث التي وقعت حول الدولة في العهد الراشدي ليس فيها طريقة لتشكيل دولة وليس هناك شكل للدولة، وهذا بطبيعة الحال لا يُلغي موقع الفقيه لأن موقع الفقيه هو في نظام القيم وموقعه أن يكون في المجتمع الأهلي والمدني ليكون حريصا على العدل ضد الجور ويعترض ويحتج ويدعو إلى التصحيح في اللحظة المناسبة، إذا التجربة في إيران حتى الآن تجربة حداثية فيها مؤسسات الدولة كمجلس نواب ومجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور وانتخابات وأكثرية وسلطة تنفيذية وسلطة تشريعية وهي مؤسسات مفصولة، وحتى في الاقتصاد لم تُقدم إيران لحد الآن تجربة إسلامية متميزة باعتبارها مازالت إيران تُطبق نظريات الاقتصاد المعمول به عالميا ولكن تحاول أن تحكمها بنظام قيم أيضا بمعنى أن تجعل الإسلام ثقافتها ومعياريتها الأخلاقية والقيميّة.
بالنهاية نتساءل: هل نضع الدولة في إيران خارج حدود الدولة الإسلامية ؟ برأيي أن الذي أثبتته إيران أن الدولة الحديثة بشكلها هذا يمكنها أن تكون هي الدولة الإسلامية، هذه الدولة الحديثة القائمة على النظام البرلماني أو الرئاسي المناسب ممكن أن تُكيّف إسلاميا بمعنى أن يكون الإسلام ثقافتها ذاكرتها ومكوّن رؤيتها، كما أن التجربة الإسلامية في إيران أثبتت أيضا من خلال هذه المسألة أنه لابد من التمييز بين الدين والسياسة واكتشاف المشترك الغائي والقيمي والتمييز الوظيفي بين الدين والسياسة لا الفصل لأنني لا أصف من خلال هذا الكلام العلمانية بالمفهوم السائد، ولكن يجب حساب علاقة هذه المنطقة وشعوبها وثقافتها بالدين لأننا نريد أن نحفظ الدين كمكوّن، إنني أقول هذا الكلام من منطلق فهمي لتجربة الإمام علي بن أبي طالب (ع) حين ترك المجتمع مفتوحا عن طريق الفصل بين العقيدة والسياسة وليس فصل الدين عن الدولة وهناك نماذج في سيرته (ع) تُبرهن على ذلك كما هو موجود في صحيفة المدينة أو في علاقته مع الخوارج وبالمعارضة ككل، أما ما يُطرح الآن من أسلمة المجتمع وعلمنة الدولة فهذا جمع بين نقيضين لا يُمكن حلّه إلاّ بالرجوع إلى الدولة المدنية ذات النزعة الرعائية للدين التي هي دولة الأفراد القائمة على القانون والكفاءة والتي تأخذ في اعتبارها المتغير الاجتماعي.
قلت إن المجتمع الإيراني يتسم بالحيوية، يعيش حراكا إيجابيا في تعاطيه مع الدولة، هل من توضيح أكثر لملامح تلك الحيوية؟
- من أهم دلائل حيوية المجتمع الإيراني ثلاثة أمور:
(الأول) نحن في الوطن العربي والإسلامي نفتقد إلى رافعة المستقبل وهو الشباب وهو قطاع غير حيوي ومُعطّل في الجامعات وفي الحياة العامة... وحتى في لبنان الذي كان فيه دور الشباب والطلاب مميز الآن انتهى تماما بل هو مُصَادَر ومُشتت ومُحطّم، أمّا في إيران فدور الشباب فيها محفوظ وهم جزء من القرار بل هم هاجس الدولة والمعارضة معا.
(الثاني) وهو ما يتعلق بدور المرأة فدور المرأة في بلادنا العربية والإسلامية مهمش إلاّ في المجتمعات ذات الثقافة المركبة، كباكستان وبنغلادش وماليزيا واندنيسيا وهي أماكن التعدد الفعلي وحازت المرأة موقعا غير عادي، ففي بنغلادش وهي أكثر الدول الإسلامية تخلفا كل الحركة السياسية نسائية المرشح والمرشح الضد وكذلك في باكستان دور المرأة فيها محفوظ، في ماليزيا أيضا محفوظ وكذا في اندنيسيا التي باتت تترأس البلاد فيها امرأة وهي ميجاواتي سوكارنو ابنة زعيم المرحلة الشيوعية وهي تحكم من دون فقه اعتراض وهو شيء متقدم.
في إيران دور المرأة محفوظ أيضا وهو أمر غير مفاجئ لأن موقعها في بُنية وهيكلية المجتمع موقع متقدم وآتٍ أساسا من كونها تتحرك وتلعب على المساحة المشتركة فيما يخصها بين الحداثي والإسلامي بممازجة.
(الثالث) وهو مسألة الثقافة (وخصوصا ثقافة السؤال) في إيران التي تجاوزت إمكان إلغائها وبدأت تُكوّن حالاتها على السطح وفي العُمق من قم إلى طهران هذا التيار الحداثي الذي يحمل سؤاله الثقافي وليس السياسي وبالتالي فهو الآن تيار متين وقوي وله جمهوره ولم يعد أحد باستطاعته أن يُسيطر عليه أو يقمعه.
البعض يقول إن خاتمي أربك الساحةالسياسية الإيرانية عندما قدّم التنمية السياسية على الإقتصادية، والبعض رأى أن فريق عمله غير مُؤهل وتنقصه الخبرة، فـ 12 وزيرا من وزارته جدد وخمسة فقط تقلدوا مناصب وزارية سابقة؟
- أنا أتفق معك على أن خاتمي أخطأ في رسم الأولويات، ولكن ما قام به خاتمي لا يُتوقع غيره لأنه آتٍ على أساس معارضة، وهو لم يكن طارحا نفسه للرئاسة أصلا بل لأن التيار الإصلاحي لم يجد غيره وهذا الكلام لا يمس أهليّة خاتمي على رغم أنه أقرب إلى المثقف منه إلى السياسي كما هو الآن وضع الإصلاحيين، وعلى رغم فشلهم إلاّ أن الناس مازالت تريدهم ليس لإيجابيتهم بل لأنهم في مقابل الآخرين (المحافظين) كما أنهم (أي الإصلاحيين) حالة شبه حزبية تُقدم الولاء السياسي على الخبرة
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 527 - السبت 14 فبراير 2004م الموافق 22 ذي الحجة 1424هـ