ما لم يقع المرشح الديمقراطي جون كاري في خطأ قاتل أو يكون في ملف سيرته الشخصية والسياسية لطخات من العيارالثقيل، يتم نبشها وتفجيرها بوجهه، فانه يمكن القول من دون مجازفة، استنادا إلى السوابق والى معطيات المعركة حتى الآن، بانه حسم الامر عمليا ووقع عليه الخيار ليكون الحصان الديمقراطي المنافس للحصان الجمهوري جورج بوش، في شوط السباق الى البيت الابيض، نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. صحيح ان انتخابات التصفية الحزبية ما زالت في بداياتها - جرت في 11 ولاية حتى الآن، من اصل 50 - لكن «المكتوب يُقرأ من عنوانه». فهو لم يرسب الا في اثنتين منها: واحدة بفارق 3 في المئة فقط. والثانية لانها كانت محسوبة سلفا في خانة احد منافسيه - السناتور جون ادواردز - بحكم الجيرة والرصيد المناطقي. في المقابل كان فوزه بفارق وازن على خصومه في الولايات التسع التي كسبها، تراوح بين 15 و50 في المئة. وذلك ليس من غير دلالة ومؤشر يدل على ان الرياح تنفخ باتجاه ما تشتهي سفينة كاري.
ويبدو أن هذا التوجه يعود لجملة اعتبارات، على رأسها وقوف بعض رموز الحزب الديمقراطي ومرجعياته ومفاتيحه - مثل السناتور كينيدي - إلى جانب كاري ومنحه التأييد العلني، في حين بقيت المرجعيات الاخرى فيه، اما فاترة في تأييدها لمنافسيه - مثل تعاطف كلنتون مع المرشح لاسلي كلارك - وإما مترددة في منح دعمها المكشوف لغيره - مثل لقاء الرئيس كارتر مع المرشح هاورد دين لكن من دون الاعلان عن تبني ترشيحه - وكان من الواضح ان اقطاب الديمقراطيين، في الكونغرس كما في مؤسسة «الحزب»، كانوا غير متحمسين، بل غير مرتاحين اصلا، لطاقم المرشحين. وبالتحديد لمن كانوا في الطليعة قبل بدء انتخابات التصفية، مثل هاورد دين، على اساس انه لا تتوافر لديهم الشروط المطلوبة لهزيمة بوش. ومن هنا كان غياب الاجماع المبكر، او حتى شبه الاجماع، بشأن احد منهم. وفي النهاية رست القناعة الراجحة لدى الاقطاب كما لدى القواعد على ان كاري هو الاكثر قدرة على منافسة بوش، لانه الاكثر خبرة وتمرسا باللعبة الانتخابية، ولس لانه الاكثر نجومية. ومن المتوقع في الايام القليلة المقبلة ان تتوالى عملية احتضانه من جانب اركان الحزب، كما من جانب الكتل الانتخابية الموالية تقليديا للديمقراطيين، مثل النقابات. قبل يومين سحبت ثاني اكبر نقابة موظفين تأييدها للمرشح دين لتمنحه الى كاري. وبذلك يبدو انه تم تسويق كاري لدى حزبه. الآن مطلوب تسويقه لدى الاميركيين. وهي عملية ليست سهلة، خصوصا عندما يكون الخصم رئيسا يخفض معركة تجديد ولايته. منذ بداية القرن الماضي لم يخسر مثل هذا التجديد الا اثنان: كارتر وبوش الاب. فهل تتكرر الخسارة هذه السنة؟.
للمرشح الديمقراطي كاري فرص مؤاتية ونقاط قوة لا يستهان بها. اولها ان هذه الانتخابات تأتي في زمن حرب لا تجري امورها على ما يرام. ويفاقم من عبئها على جورج بوش ان إدارته مطاردة «من فج عميق» لناحية انها افتعلت هذه الحرب واخفت الحقائق، التي بدأت تتكشف، عن الشعب الاميركي، وتبدو الادارة في دفاع متقهقهر، بهذا الخصوص، خصوصا في موضوع أسلحة الدمار، التي زعمت ان العراق كان يمتكلها. ثم تراجعت لتقول إنه كان يملك برامج لامتلاكها، أخيرا لجأوا إلى زعم انه كان «ينوي» استخدامها. ثم انه كان «قادرا على تصنيعها... ومن المتوقع ان يعمل كاري من هذا المسلسل احد اهم اسلحة حملته ضد بوش.
ثم ان هذه الانتخابات تأخد اهمية فريدة من حيث انها خيار امام الاميركيين بين يمين حربجي يتحرك بايديولوجية التفوق والتفرد والهيمنة، عبر سياسة القوة، التي بدأت كلفها تظهر، وبين بديل يدعو إلى العودة نحو سياسة الحوار والتعاون الدولي واحترام المواثيق والمنظمات والقوانين الدولية. ومثل هذا الخيار، اذا ما جرى التركيز عليه كفاية وتبيان مضاعفاته، فإن بالامكان تحويله الى عامل استقطاب مهم لصالح كاري. خصوصا اذا ما بدا ان غزو العراق يتحول اكثر فاكثر الى مستنقع متزايد الكلفة، البشرية والمالية.
وبالنسبة للديمقراطيين، فلا بد ن تكون انتخابات 2004 معركة لها علامة فارقة، باعتبارها معركة رد اعتبار وتصفية الحساب المعلق منذ انتخابات 2000. فهذه الاخيرة انتزعها جورج ليس بصندوق الاقتراع، بل بقرار محكمة - العليا - غالبية اعضائها التسعة من المحافظين، منافسه الديمقراطية آنذاك، البرث غور. نال ما يزيد على نصف مليون صوت اكثر منه، في الاصوات الشعبية. لكنه أي بوش، تفوق باصوات الولايات وبسبب نحو 500 صوت فقط قيل يومذاك انه حصل عليها، في ولاية فلوريدا - حاكمها شقيق الرئيس بوش - اكثر مما حصل عليه غور وعلى رغم ان المحاكم حسمت الأمر في النهاية لصالح بوش الا ان علامات الاستفهام بقيت مرسومة عن رئاسته ومدى شرعيتها. والآن تعود تلك النتيجة الى الحضور، لتشكل عنصر استنفار قوي بيد الديمقراطيين وبما قد يمكنهم من تصحيح ما يعتقدون، ومعهم الكثيرون في اميركا والعالم، بانها كانت لطخة في تاريخ الرئاسة الاميركية، لا سابق لها والتي كانت حملة مرشحهم غور «المفركشة» مسئولة غير مباشرة، إلى حد بعيد عن حصولها وعن مجيئ بوش وفريق المحافظين المتطرفين الى الحكم.
بالاضافة الى هذا وذاك، ثمة ورقة اخرى يمكن للديمقراطيين تجييرها لحسابهم اذا أحسنوا التوظيف: ورقة غياب مرشح ثالث مستقل، هذه المرة، كان عادة يأخذ من رصيدهم. وبالذات مرشح (حزب الخضر) رالف نادر - اللبناني الاصل - الذي نال في الانتخابات الماضية نحو 3 في المئة من الاصوات، والتي كان جزء منها كافيا لترجيح كفة غور. وبالذات في ولاية فلوريدا التي اطاحت به لقصوره بعدة مئات فقط من الاصوات.
مصادر مقربة من نادر تقول انه يميل الى العزوف عن خوض المعركة هذه المرة. وتضيف انه يعتزم دعم المرشح الديمقراطي وتجيير رصيده له بهدف الاطاحة بجورج بوش. ولابد ان في ذلك، اذا صح، تعزيزا لحملة كاري ومعركته.
لكن أمام كاري تحديات. ابرزها القدرة على خطب ود شريحة وازنة من اصوات المستقلين، الذين لا يقوى مرشح على حسم المعركة من دون تأييدهم. فالساحة الانتخابية مقسمة تقليديا الى ثلاثة أجنحة: القاعدة الديمقراطية ونسبتها الثلث تقريبا. والقاعدة الجمهورية وحصتها الثلث ايضا والمتبقي يمثل المستقلين الذين تتقلب اصواتهم، او غالبيتهم، بين مرشحي الحزبين. مرة تكون لصالح الجمهوري. وفي مرة اخرى تكون لمنافسه حزب الخضر، المحسوب على خندق المستقلين، يتمتع بقاعدة صلبة ولو ضئيلة نسبيا، وهي بالتأكيد ضد بوش. فيبقى على كاري جذب كتلة اخرى وازنة من هذا الخندق لترجيح الموازنة لصالحه. وهي امكانية واردة، خصوصا اذا ما بقي الوجع الاقتصادي قائما خلال الحملة الانتخابية.
كذلك يواجه كاري، في عملية تسويق ترشيحه، مشكلة كونه سياسيا تقليديا من قماشه نفسه ونادي الطبقة الحاكمة. فهو عضو في مجلس الشيوخ منذ نحو 20 سنة، يمارس العمل في الكونغرس كغيره، لجهة التعامل مع قوى الضغط وقبول التبرعات منها مقابل التصويت لمشروعات قوانين تخدم المصالح الخاصة الكبيرة على حساب المصلحة العامة. وهي خلفية طالما وقفت حجر عثرة بوجه الكثيرين من رجال الكونغرس الذين سبق ونزلوا الى ميدان الترشيح للرئاسة ولم يفلحوا. خلال المئة سنة الماضية لم يقو مرشح واحد على الانتقال فورا من الكونغرس الى البيت الابيض، بسبب النظرة اليه بانه من ذات البضاعة ولا يحمل اي جديد.
واذا أمكن كاري التغلب على هذا الاعتقاد فعليه تجاوز عقبة اكبر تتمثل في عقدة الجنوب الاميركي. فهذه المنطقة - 12 ولاية - باتت تشكل بيضة القبان في الانتخابات الرئاسية، كما باتت أخيرا كتلة واحدة معقودة اللواء للمرشح الجمهوري. عدم قدرة الديمقراطي البرت غور على اختراقها، ولو بولاية واحدة، في انتخابات العام 2000 كلفته خسارة الرئاسة، مع انه فاز باكبر ولايتين في الاتحاد: كاليفورنيا ونيويورك، بالاضافة إلى عدد من الولايات الصناعية في الوسط الشمالي من البلاد. ونفس هذا الخطر يهدد كاري، الا اذا حسم الامر لصالحه في الغالبية الكاسحة من الولايات الاخرى غير الجنوبية، بما فيها نيويورك وكالفورنيا.
لكن جورج بوش، على الرغم من العجز الذي قد تعاني منه حملته بسبب العراق والاقتصاد، يملك هو الآخر اوراقا لا يستهان بها. اولها انه يخوض المعركة من موقع الرئاسة. فوجوده في البيت الابيض هو بحد ذاته رصيد غير اعتيادي، يجعل منه محور الاهتمام ويضعه باستمرار وسط دائرة الضوء وعلى اتصال دائم بالشعب الاميركي عبر وسائل الاعلام. كما بامكانه اتخاذ قرارات واعتماد سياسات تؤدي الى ردود فعل تصب في تعزيز حملته الانتخابية. كذلك يمكنه وبسهولة تجيير أي تحسن اقتصادي يطرأ خلال المدة الفاصلة عن الاستحقاق الانتخابي. وثمة مؤشرات على انتعاش ولو بطيء في هذا المجال.
لكن رصيد بوش الاقوى يبقى في قاعدته الانتخابية الصلبة، التي لا تحيد عن تأييده وبقوة، والمتمثلة في الولايات الجنوبية. خصوصا الشق المحافظ الديني في قسم كبير من هذا الجنوب والذي يشكل عرين اليمين المتزمت، والمعروف باليمين المسيحي المتعهين والذي يعتبر العمود الفقري لحملة الرئيس. وهو الذي كان وراء مجيئه إلى البيت الأبيض 2000.
بالاضافة إلى ذلك يملك سيد البيت الابيض ورقتين مهمتين: التفوق في المال ثم كونه «رئيس الحرب على الارهاب».
ففي صندوق حملته حتى الان اكثر من مئة مليون دولار. ومن المتوقع ان تتجاوز التبرعات اللاحقة، خلال الحملة، نصف هذا المبلغ، الذي قد لا يقوى كاري على مجاراته. فالمال عصب الحملة الانتخابية. ليس العامل الحاسم بالضرورة. لكنه شديد التأثير. الا اذا كانت الاعطاب غير قابلة للتلميع. والمعروف، من الانتخابات السابقة، أن حملة بوش يشرف عليها طاقم مقتدر من الخبراء والخططين اللامعين.
كذلك يملك بوش ورقة «محاربة الارهاب». فهو غزا دولتين واسقط نظامين ويهدد بالمزيد، ردا على 11/9. وهذا التاريخ لازال حيا ومرعبا في ذاكرة الاميركين. وبامكان بوش توظيف ورقة أنه «لم يتهاون» مع الارهاب وانه يخوض حرب مطاردة متواصلة معه.
وقد يبلغ هذا التوظيف ذروته اذا ما تمكنت ادارته من القاء القبض على اصحاب اسماء مرعبة لدى الاميركيين، مثل ابن لاذن أو أحد كبار اعدائه، قبيل الانتخابات. في اللحظة الراهنة يبدو نجم كاري في صعود ونجم بوش في هبوط. آخر استطلاع اجرته مجلة نيويورك كشف عن امكان فوز الأول على الثاني - 50 مقابل 45 في المئة - لو جرت الانتخابات الآن. كما كشف بان بوش لا يمكنه الفوز على المرشحين الديمقراطيين الثلاثة الباقين في الميدان - دين وإدواردز وكلارك - باكثر من فارق يتراوح بين 5 و7 نقاط فقط. ويزيد من الاخبار السيئة لبوش ان رصيده العام هبط الى 48 في المئة. قبل أشهر قليلة كان بحدود 61 في المئة. وفي ضوء هذه الارقام، التي لا تحمل تباشير خير الى الرئيس، يبدو ان على هذا الاخير خوض معركة لا تقل صعوبة عن معركة خصمه الديمقراطي. واذا كان من السابق لأوانه اطلاق التكهنات من اليوم فإنه من غير المبكر القول بأن الحملة الانتخابية مرشحة للمزيد من التقلبات، تبعا للتطورات والمستجدات، الخارجية والداخلية، التي سيكون لها الباع الطويل في تقرير مصير هذا الاستحقاق الانتخابي الفاصل
العدد 526 - الجمعة 13 فبراير 2004م الموافق 21 ذي الحجة 1424هـ