قررت «إسرائيل» مقاطعة «محكمة العدل الدولية» في لاهاي التي تنعقد للنظر في مسألة «جدار الفصل العنصري» الذي تقيمه حكومة أرييل شارون في عمق الضفة الغربية. فالمقاطعة الإسرائيلية جاءت على خلفية فشل الولايات المتحدة في منع الأسرة الدولية من النظر في الموضوع التي اتخذت قرارا بنقل المسألة إلى محكمة العدل بغالبية 90 عضوا من الجمعية العامة للأمم المتحدة.
القرار الإسرائيلي يدل على مدى معرفة تل أبيب بأن سياستها العنصرية لم تعد تلقى تلك التغطية الدولية وتشير أيضا إلى عجز موضعي في عدم قدرة واشنطن على الضغط على دول العالم وارغامها على طي الحقائق وكسرها من طريق القوة.
الموقف الأميركي شجع تل أبيب على مواصلة مخالفتها. فالدولة العبرية تعتبر نفسها فوق دول المنطقة ولا تنطبق عليها المعايير الدولية التي تصر إدارة البيت الأبيض على تطبيقها على ما تسميه «الشرق الأوسط» مستثنية «إسرائيل» من كل ما له صلة بالقانون الدولي والقرارات العادلة المتعلقة بالاحتلال أو بأسلحة الدمار الشامل. فالموقف الأميركي فضيحة سياسية في كل الموازين الأخلاقية لأنه يكشف عن نزعة استعلائية تميز بين دول وأخرى وبين مبادئ تريدها في مكان وتخالفها في آخر.
هذا النوع من السلوك الدولي للسياسة الأميركية يفسر إلى حد كبير الأسباب الحقيقية التي تقف وراء فشل استراتيجية واشنطن ليس في «الشرق الأوسط»، وإنما في معظم دول العالم. فأميركا مثلا التي حاربت «جدار برلين» طوال ثلاثة عقود في ألمانيا بذريعة أنه يعكس مخاوف سياسية (أيديولوجية) في إطار «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفياتي سابقا... هذه «الأميركا» تخالف الآن نفسها وتشجع على الانغلاق في معسكرات اسمنتية. والاسمنت في النهاية لا يحمي الدول ولا يعزز الأمن بل يزيد من الكراهية ويحرض على تطور العنف من خلال تطوير أدواته وأغراضه.
«جدار الفصل العنصري» في الضفة الغربية أسوأ من «جدار برلين» على مختلف المستويات. «جدار برلين» مجرد أحد الحواجز السياسية الاعتراضية على معركة أيديولوجية بين معسكرين بينما جدار الضفة الغربية فهو فاصل عنصري بين شعبين يريد ترسيم حدود بين كتلتين بشريتين على رغم أنف العالم وبالضد من قرارات الأمم المتحدة وما تفرع عنها من اتفاقات وتفاهمات آخرها كان «خريطة الطريق». فالخريطة التي يرسمها جدار شارون تخالف في جوهرها السياسي تلك الخريطة التي اتفقت الدول الأربع الكبرى على تطبيقها بعد أن نجحت الولايات المتحدة في احتلال العراق في أبريل/ نيسان العام الماضي.
«جدار الفصل العنصري» أسوأ من «جدار برلين» في كل المعايير والمقاييس. وأسباب ذلك كثيرة منها ما له علاقة بطول الجدار (600 كلم) وارتفاعه الذي يصل في بعض الأمكنة إلى ثمانية أمتار وكلفته التي تجاوزت الموازنة التي حددت له (220 مليون دولار أميركي) بل في تدميره لكل إمكانات نهوض «دولة فلسطينية» في المستقبل زعم بوش الابن انه يدعم قيامها في العام 2005. فالجدار العنصري يصادر حوالي 58 في المئة من أراضي الضفة ويستولي على 85 في المئة من مياه الآبار الجوفية ويعطل تواصل 71 في المئة من أهالي الضفة كذلك اتصالات المدن والقرى ببعضها ويشرد حوالي 1500 أسرة ويعزل 2200 أسرة ويصادر 175 ألف دونم من الأراضي المزروعة والمشجرة.
«الجدار» في طوله وعرضه وارتفاعه يشير إلى نزعة عنصرية وسياسية ترفض التعايش مع الآخر ودولة تعتبر نفسها فوق القانون الدولي وأعلى من «الشرق الأوسط». فالجدار يريد قطع الطريق على التأقلم مع المنطقة ويهدف إلى كسر إرادة شعوبها من طريق تكريس سياسة استعلائية ترى في القوة وسيلة وحيدة لتغيير هوية المنطقة ورسم خريطتها الجغرافية من جديد.
«إسرائيل» تقول إنها قررت بناء «جدار الفصل العنصري» لأسباب أمنية ولحماية مواطنيها في الأراضي المحتلة في العام 1948 والدفاع عن مستوطنيها (180 ألفا) القاطنين في الضفة الغربية.
هذه الحجة الأمنية تذرعت بها حكومة شارون لتبرير بناء الجدار وهي الحجة نفسها التي تذرعت بها لمقاطعة محكمة العدل الدولية في لاهاي. هذا جانب من الخدعة لأن الحقيقة تقول إن تل أبيب لا تريد التعايش مع منطقة تعتبر نفسها خارجة عليها. فالمشكلة ليست في الأمن وإنما تكمن في هاجس الدفاع عن هوية خاصة لا تنسجم مع شخصية منطقة عربية - إسلامية. فالخوف ليس على أمن «إسرائيل» وإنما على هويتها ومستقبلها. والجدار في معناه الحقيقي يشبه «الغيتو» الذي سقطت أسواره الثقافية وبقيت جدرانه النفسية فانتقلت مع المستوطنين من أوروبا إلى فلسطين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 526 - الجمعة 13 فبراير 2004م الموافق 21 ذي الحجة 1424هـ