فقدت البحرين ودول مجلس التعاون علما من أعلامها البارزين المتميزين، ابنا محبا بارا مخلصا من أبنائها المبدعين الذين أعطوا من دون حدود عبر مراحل حياته الزاخرة بالتطلع والإنتاج ومنذ أن كان مدرسا في المراحل الثانوية في بداية حياته العملية في بداية الخمسينات إلى أن أصبح بحق رجل التنمية والبناء، وأستاذ الصناعة والنفط، ووزير التنمية والخدمات الهندسية والإنتاج، الذي كان العمل الموقعي الميداني أحد عناصره ومردوده، هو المرحوم الأستاذ العزيز يوسف أحمد الشيراوي الذي رحل عنا يوم الثلثاء الموافق 3 فبراير/ شباط 2004 ثالث أيام عيد الأضحى، في مدينة لندن بعد أن قضى أول أيام العيد معنا في البحرين وتبادل التهاني والتبريكات مع الجميع من أحبائه وأصدقائه، وكأنه على موعد معهم قبل رحيله بأيام، وكان رحمه الله كعادته متطلعا مبتسما للمستقبل ومتفاعلا ومتفائلا يتحدث مع الموجودين في مجلس العيد بخبرة السنين، ومنطلقات الفكر المتحرر، وتطلعات المستقبل والعمل القادم الذي يتطلع إليه بعد عودته من لندن. .. وهكذا كان لقاؤنا الأخير مع أستاذنا الكريم يوسف في أول أيام العيد... ولم ندرك، ولم يخطر ببالنا، ما خبأه له ولنا القدر بعد يومين... ولكن هذه هي سنة الحياة، وعلى الإنسان أن يعتبر بها ومنها، وأن يتعلم من دروس الحياة الفانية، فليس شيء باق إلا العمل الصالح من حياة الإنسان، وأستاذنا العزيز رحمه الله ترك وراءه الكثير من العطاء المميز لهذا الوطن العزيز. عرفت الأستاذ المرحوم يوسف الشيراوي عن قرب، وقد عملت معه خلال فترة مهمة من تاريخ البحرين الحديث منذ منتصف السبعينات فقد كان حينها وزير التنمية والخدمات الهندسية، وكان الأخ الأستاذ ماجد جواد الجشي وكيل الوزارة وكنت معهما مديرا للمشروعات والأبحاث، وفي تلك الفترة المهمة وضعت الأطر والمخططات الأولى لكثير من المشروعات الرئيسية والأساسية للبحرين الحديثة، ابتداء من استكمال ميناء سلمان البحري إلى إقامة وإنشاء مطار البحرين الدولي، ومن بناء مركز السلمانية الطبي إلى استحداث محطات التحلية والكهرباء والماء في سترة، ومن ربط مدن وجزر البحرين بالطرق وشبكات الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ومجاري إلى التركيز على الصناعة ووضع اللبنات الأولى للنهضة الصناعية المتطورة في هذا البلد الطيب، وكانت وزارة التنمية والخدمات الهندسية هي المرتكز الفني المهم لمنطلقات الدولة ومن خلالها عينت الدولة، بيوت الاستشاريين العالميين من الدول المتقدمة لوضع التصورات والخطط المستقبلية التي لاتزال اليوم هي الأساس الأول للتطورات الكثيرة المستمرة في دولة البحرين العزيزة، ومن خلال وزارة التنمية والخدمات الهندسية ارتبطت البحرين بالكثير من المشروعات الخليجية والعربية الناجحة، كان من بينها إقامة الحوض الجاف العملاق وهو الأول من نوعه في منطقة الخليج لتصليح السفن وخصوصا السفن الحاملة للنفط العملاقة، كما ارتبطت البحرين بتطوير الصناعات البتروكيماوية واستعمال الغاز كمنتج مهم للصناعة وتوليد الكهرباء وتطوير حقول النفط. ولابد لنا أن نذكر أستاذنا الأخ العزيز المرحوم يوسف أحمد الشيراوي لما قدمه من أعمال مهمة عظيمة إلى هذا البلد البلد العزيز، فقد كان الابن البار للبحرين، وكانت مشروعاته دائما على مستوى عملاق وعالمي رفيع، وهذه المشروعات الصناعية المهمة الآن تنافس إنتاج الدول الصناعية المتقدمة في الشرق والغرب في مستواها وفي إنتاجها وفي جودتها، ولنأخذ مثالا حيا قائما هو صناعة الألمنيوم، فكيف يخطر ببال إنسان مثل أستاذنا الكريم الذي يعيش بعيدا عن التطور الصناعي العالمي المنفتح، أن يفكر ببناء مصاهر كهربائية لصهر الألمنيوم... والمادة الرئيسية الأولى لهذه الصناعة «الألمونياء» غير موجودة في البحرين ولا في المنطقة العربية بكميات صناعية كافية... وإنما هي في قارة بعيدة جدا هي استراليا في أقصى العالم البعيد... ولكن هكذا كان أستاذنا العزيز... فقد جمع المادة الخام الاسترالية، واستعمل غاز البحرين لتوليد الكهرباء لمصاهر الألمنيوم، وأنتج من خلالها مادة صناعية جديدة هي الألمنيوم الفضي اللون وهو من صناعة البحرين التي تصدر إلى جميع أنحاء المعمورة بما فيها الدول الصناعية المتقدمة، ولهذا فإنه كان الوالد الحقيقي لهذه الصناعة المهمة في بحريننا العزيزة. ومن الأمور المهمة الأخرى التي كان الأخ العزيز المرحوم يوسف أحمد الشيراوي أحد أركانها المهمة جسر الملك فهد الذي يعتبر جسرا عملاقا بكل المواصفات والمقاييس، وقد كان المشروع فكرة أولى نبتت في عهد المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة وجلالة المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، وأصبح اليوم واقعا ملموسا يعود بالنفع والفائدة على كل أبناء المنطقة الخليجية... لقد كان أستاذنا المرحوم هو الوزير المسئول من الجانب البحريني، وكان الأستاذ محمد أباالخيل مسئولا عن الجانب السعودي، وكانت هناك لجنة فنية هي التي أشرفت على الإنجاز الفني، ولكن المهم في هذا العمل العملاق المنجز الذي استغرق أكثر من عشر سنوات هو التأكيد والمتابعة والإشراف واتخاذ القرارات المناسبة وإنجاز عمل وحدوي يربط الشعبين الشقيقين ببعضهما، ويفتح ويزيد بينهما آفاق التعاون الاقتصادي والترابط الأسري، وكان دور أستاذنا الراحل مميزا في هذا المشروع العملاق المهم وعبر جميع منطلقاته منذ البداية. الأخ العزيز المرحوم الأستاذ يوسف أحمد الشيراوي من عمالقة الخليج الذين لعبوا دورا مهما ورئيسيا في المشاركة الفاعلة في تطويره وجعله منطقة لها دورها الإيجابي في مجالات التنمية والصناعة والفكر الحيوي المنفتح، فقد كان رحمه الله من الأشخاص الذين شاركوا مشاركة فاعلة في بدايات التطلعات الوحدوية الخليجية، وتعامل معه جميع أمراء المنطقة ويعرفونه معرفة شخصية عن قرب، وكان صاحب فكر صائب، وذكاء متميز، وخبرة منقطعة النظير في الخليجيات التي عاشها وشارك فيها، فقد شارك في الكثير، وبذل الكثير، وتعلم الكثير من كل هذا الزخم المهم الذي عاشه يوما بعد يوم، بواقع رفيع وعلى أعلى المستويات... كان من الأوائل الذين كونوا صداقات حميمة شخصية مع الكثير من أبناء الخليج انطلاقا من المملكة العربية السعودية إلى سلطنة عمان، فقد تمكن عبر منطلقاته الفكرية، وثقافته العربية الإسلامية، ومركزه الرفيع، وقراءته المستدامة ومخزونه الموسوعي، وبساطته في التعامل والحديث من أن ينمي هذه الصداقات وأن يذكره الجميع بالخير، وأن يكون دائما من الشخصيات التي تسعد بالاستماع إليها والتعرف عليها وعلى أفكارها وآرائها، وما قرأه أخيرا، وما هو رأيه الجديد في عالم الفكر والصناعة والسياسة والعالم... مجلسه لا يمل ولديه من المخزون المعرفي الكثير الذي يمكنه أن ينقلك من موضوع إلى آخر بالزخم والفهم أنفسهما وآخر التطورات في هذا الموضوع الذي يتحدث عنه. ولا يمكن لأي إنسان أن يتحدث عن الأستاذ يوسف أحمد الشيراوي من دون أن يقف معه ومع نشاطه في عالم الفلك والأفلاك والكسوف والخسوف وعالم السماوات والأرض، وظهور الأهلة وطلوع الشمس... هذا الاهتمام الفلكي المتميز أعطى أستاذنا المرحوم عمقا فلكيا خاصا جعله يتطلع إلى اقتناء المراصد والسهر في الظلام والليالي الدامسة للتفكر في ملكوت السماوات... ولكن المهم في هذا الجانب أنني تمكنت من التعاون والطلب من أستاذنا العزيز لأن يتعاون مع بيت القرآن بإصدار تقويم هجري كل عام، وكنا نصدر في تلك الفترة التقويم السنوي الميلادي فقط... فوافق رحمه الله وكان الإصدار الأول للتقويم الهجري لبيت القرآن الذي أسميناه تقويم الشيراوي في العام 1413هـ «1992م» وكان مقدمة التقويم الأول كالآتي: أعد هذا التقرير الأستاذ يوسف أحمد الشيراوي، ولذلك قررنا في بيت القرآن أن نطلق عليه اسم «تقويم الشيراوي» وهو يضم بالإضافة إلى المعلومات الأساسية الثابتة كالأيام والأشهر العربية والتقويم الشمسي ومطالع الفجر وميقات الصلاة بعض المعلومات والظواهر الفلكية خلال العام مع صور تلك المظاهر. ولعل أهم ما في التقويم هو الشرح الوافي الذي أعده المؤلف ليشرح منهج البحث العلمي الذي اعتمده في احتساب هذا التقويم. وقد استمر التقويم الهجري للأستاذ يوسف الشيراوي إلى الإصدار السابع الذي كان للعام 1419هـ «1999م» ثم تابع الإصدار بعد ذلك من خلال مؤسسة الأيام للطباعة والنشر. واليوم، وقد رحل عنا أستاذنا العزيز يوسف أحمد الشيراوي... نقف دقيقة حداد عليه لنقرأ الفاتحة، فقد كان إنسانا من أبناء البلد الذي لا يغتر بمركز، ولا يتعالى على الناس، فهو قريب من أكبر شخصية وهو قريب من المواطن العادي الذي قد يسأله عن موضوع ما... كان رحمه الله متواضعا متصلا بالناس، يجالسهم ويشاركهم الحديث، طيب الأخلاق والقلب، مرهف الحس والإحساس، عصاميا، مكافحا، صريحا واضحا، مخلصا القول والعمل، ذا كفاءة عالية ودور إيجابي منفتح على كل عمل قام به، ترتاح إلى الاستماع إليه وتتفاعل معه في كثير من الأمور التي يطرحها وخصوصا إذا كانت هذه الأمور انتقادا لسلبيات ما أنزل الله بها من سلطان... هو نسيج فريد من نوعه ومن الرعيل الأول الذي عرف الحياة بكل أبعادها، وتعامل معها بكل منطلقاتها الإيجابية السلبية، عرفته إنسانا متميزا في كثير من الأمور، كما عرفته متخصصا في تطوير الإيجابيات إلى مبتغاها الطيب، ساعدنا في تكوين جمعية المهندسين وكان لنا المساند الأول والمساعد في حل الصعاب، أذكر فيه الانفتاح والاستماع والتوجيه السديد، فرحمة من الله عليه، ودعاؤنا لله عز وجل أن يتغمده برحمته الواسعة ويجعل مثواه الجنة مع الأخيار، وإنا لله وإنا إليه راجعون. * مؤسس بيت القرآن والأمين العام
العدد 525 - الخميس 12 فبراير 2004م الموافق 20 ذي الحجة 1424هـ