لم تقتصر زيارتنا على طهران، فقد كان مركز القرار للثورة الإسلامية والنظام الجديد في قم حيث كان يقيم آية الله روح الله الخميني وهكذا تحركنا بمعية الصديق محمد صادق الحسيني إلى قم وتوجهنا إلى مكتب آية الله الخميني، وكان عبارة عن منزل إيراني تقليدي متواضع فوجئنا بالمئات ينتظرون دورهم للسلام على آية الله الخميني أو التبرك بمصافحته أو طلب حاجة متعسرة. بعض هؤلاء أتوا مشيا على الأرجل من أماكن بعيدة جدا وقضوا أشهرا في المشي حتى يتبركوا به. حظنا كان جيدا فقد التقينا بأحد رجال الدين العاملين في المكتب والذي كنا نعرفه في بيروت، فسهل لقاءنا مع آية الله الخميني وكان الصديق محمد صادق الحسيني مترجما ورغم أن التصوير كان ممنوعا إلا أنه سمح لنا بالتقاط صورة ونحن جلوس على الأرض بحضرته وقد نشرت الصورة والبيان عن الزيارة في «نشرة 5 مارس» حينها وقد دار حديث سريع معه بشأن التضامن العربي الإسلامي مع إيران والتي كانت حينها في عين العاصفة.
ونحن في قم المقدسة قمنا بزيارة آية الله خلخالي، قائد تنظيم «مبارزان إسلام»، وكبير قضاة محاكم الثورة آنذاك، وأثناء وجودنا عنده وصل خبر موت شاه إيران في منفاه في بنما بأميركا الوسطى فأصدر فورا تصريحا لـ «وكالة بارس» يعلن مسئولية تنظيمه «مبارزان إسلام» عن اغتيال الشاه!
بعد زيارتنا لمقام السيدة معصومة في قم، قفلنا راجعين إلى طهران . وأثناء رحلة الرجوع في أحد الباصات، أصر أحد الإخوة العراقيين بالقول إنه منذ انتقل السيد آية الله الخميني إلى قم لم تقع حادثة سير واحدة بين طهران وقم لآلاف السيارات، في حين أنه قبلها كانت الحوادث كثيرة. ولم يمض وقت طويل إلا واصطدم باصنا بسيارة شحن ترتب عليها جرحى عديدون في المقدمة، وقد نجونا لأننا كنا في الخلف.
المحطة الثالثة في سفرنا كانت الأهواز أو ما يدعوها أبناؤها «المحمّرة». كان لنا العديد من الأصدقاء العربستانيين (الخوزستانيين) سواء في «جبهة تحرير عربستان» أوالمواطنين في المنافي العديدة. في عربستان صدمنا بالوضع المتأزم هناك، وكانت مساهمة أبناء عربستان في الثورة الإسلامية كبيرة ودفعوا ثمنا باهضا في ظل حكم الشاه... فقد كانت آبار النفط والصناعة النفطية متمركزة عندهم، وكونهم عربا فقد أثار حساسية وشكوك نظام الشاه. لكن المأساة تمثلت في استمرار شكوك عهد الثورة في ولائهم وإنكار حقوقهم الثقافية وخصوصياتهم. كان حاكم عربستان حينها ادميرال وقائد البحرية في ذات الوقت وكان من بقايا عناصر النظام الشاهنشاهي وكان شديد العداء للعربستانيين. عندما وصلنا أخبرنا بإغلاق العديد من المراكز الثقافية والمدارس الخاصة التي تعلم باللغة العربية وإيقاف إصدار الصحف العربية. قمنا بزيارة آية الله محمد طاهر الخاقاني، حيث شكا لنا شكوى مرة من اضطهاد العربستانيين وتهميشه. وقد جرى بعد أشهر نقله إلى قم ووضعه في الإقامة الجبرية. كما شهدنا مظاهرات احتجاجية لجماهير عربستان ضد تسلط الادميرال والمطالبة بالحقوق القومية.
المحطة الأخيرة في زيارتنا كانت باقتراح من الصديق محمد المرباطي لزيارة أهله في خولست في إقليم فارس، جنوب شرقي إيران. أخذنا الطائرة من الأهواز (المحمرة) إلى شيراز مدينة الورود والشعراء والجمال في إيران بامتياز، والتقينا هناك ببعض طلبة البحرين في جامعة شيراز وقضينا معهم ليلة. ثم ارتحلنا برا إلى بندر لنجه مستخدمين مختلف وسائل النقل، باص، لوري، بك أب، ومررنا في طريقنا بعدة قرى كنا نسمع عنها في البحرين وتنتسب إليها العديد من العائلات البحرينية مثل «بستك»، ولاحظنا إن مباني هذه القرى تدل على عز وغنى أهلها في الزمن الغابر لكن كثيرا منها مهجور. لباس أهلها من الرجال الثوب والغترة والنساء يلبسن الدراعة. لكن المفاجأة كانت عندما اكتشف الصديق محمد المرباطي أن البستان الكبير لعائلته والذي كثيرا ما سمع عن جماله وخضرته جف ولم تبق سوى بضعة نخلات تصارع العطش.
لقد كانت أياما حاسمة في تاريخ إيران والمنطقة، أيام الأحلام الكبيرة وشطحات الثوريين المندفعين وفي ذات الوقت تآمر الجيران على الثورة الوليدة. المؤسف أنني سلمت الأشرطة السينمائية (سوبر 8) إلى أحد الأصدقاء الإيرانيين العرب للاستفادة منها، وتباعدت بيننا المسافات... كما فقدت الصور التي أرخت لزيارة خاصة في زمن خاص، كما أنني أعتذر عن نسيان الكثير من التفاصيل بشأن الأسماء والأزمان والأماكن.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2350 - الثلثاء 10 فبراير 2009م الموافق 14 صفر 1430هـ