إعلان الرئيس السابق محمد خاتمي ترشحه للانتخابات الرئاسية الإيرانية التي ستجري في يونيو/ حزيران المقبل أعاد بعض الحيوية لمعركة سياسية مهمة سيكون لنتائجها تأثيرها الموضعي على الجمهورية الإسلامية ودول الجوار وجميع أرجاء المنطقة العربية - الإسلامية. فإيران بعد 30 سنة على الثورة تحولت إلى ذاك الرقم الصعب في المعادلة الإقليمية وأكدت قدرتها على الصمود واحتواء العواصف والتقدم بثبات على الأرض محدثة مجموعة اختراقات على مستويات مختلفة.
لكل الأسباب المذكورة وغيرها من عناصر ذاتية وعوامل موضوعية تستحق إيران رئيسا أفضل من محمود أحمدي نجاد. فهذا الرئيس أساء للجمهورية وأفقد الثورة الكثير من صدقيتها حين جعلها عنصر قلق ايديولوجي يثير المشكلات اللفظية ويفتعل معارك وهمية ويعطل إمكانات الحوار والتواصل مع المحيط الجواري. تصريحات أحمدي نجاد لم تعد تشكل قوة تحصن إيران وتدافع عن الجمهورية وتحمي الثورة بقدر ما تحولت إلى مدعاة للسخرية من الأصدقاء والخصوم. وكلامه عن «الحرق» و«النسف» و«الاقتلاع» لم يعد يخيف بعد أن تكرر من دون فعل وانكشف ميدانيا خلال العدوان على لبنان في صيف 2006 أو العدوان على غزة في شتاء 2008 و2009. حتى رئيس «الموساد» السابق اعتبر تصريحات أحمدي نجاد «هبة من السماء» وخدمت «إسرائيل» وأعطتها فرصة للتلاعب حين وظفتها لكسب العطف الأوروبي بذريعة أنها مهددة بالدمار والتقويض.
إيران فعلا بعد تجربة مرة عاشتها المنطقة في ظل رئاسة غير سوية في التعامل مع قضايا ساخنة، تستحق قيادة ذكية غير الرئيس الحالي الذي بالغ في تقدير المواقف وتورط في مشروعات ضيقة يمكن أن تنقلب على الجمهورية الإسلامية إذا استمرت القراءة الخاطئة في الحسابات.
إعلان خاتمي دخوله المعركة الانتخابية أعطى فرصة للشعب الإيراني للاختيار وربما التصحيح وإعادة المصالحة حتى تسترد الجمهورية تلك الصدقية التي اتصفت بها رموز الثورة. وإعلان الترشيح في موعد يذكر الملايين بتلك المناسبة خطوة مهمة لأنها تساعد على إعادة الاعتبار لفلسفة الثورة التي قادها الإمام الخميني. فالفلسفة اعتمدت جدليا على قاعدتين: أولا، المصالحة مع التاريخ أي تصحيح العلاقة بين الحاضر والماضي تمهيدا لصناعة المستقبل وتغييره. ثانيا المصالحة مع الجغرافيا أي تصحيح العلاقة بين إيران والمحيط (الجيران) بالانتقال من طور التهديد والتخويف إلى طور المهادنة والموادعة.
سياسة المصالحة المزدوجة أساء آنذاك الرئيس العراقي صدام حسين قراءة أبعادها الجدلية. وبسبب أخطاء في الحسابات اعتقد صدام أن سياسة المصالحة تشير إلى ضعف إيران وتدل على سلوك يصدر عن قوة أصيبت بالعجز والترهل. وأدت القراءة الصدامية الخاطئة إلى توريط العراق في حرب طويلة مفتوحة ومكشوفة مستخدما مظلة دولية كانت تخطط أصلا إلى ضرب القوى الإقليمية في صراع مديد يفتح الجغرافيا على تاريخ من الانقسامات والانشطارات الأقوامية والمذهبية. آنذاك توهم صدام أن هناك فرصة للهجوم العسكري وتحقيق فوز على الحدود يستطيع استخدامه في معركته الداخلية لتأكيد زعامته في الحزب والدولة والجيش.
نجح صدام آنذاك في تسجيل اختراقات عسكرية بسبب «الفوضى» التي كانت تمر بها إيران في فترة انتقالية. ونجح أيضا في الداخل حين اكتسب سمعة «بطل القادسية» و«حارس البوابة الشرقية» ليستخدمها قوة نارية للانتقام من الخصوم والمعارضة والانفراد بقيادة الدولة والحزب والجيش.
إلا أن حسابات صدام الضيقة انقلبت عليه وعلى العراق والمنطقة العربية حين بالغ في تقدير قوته ودخل في قراءات متوهمة وأخطأ في الحسابات التي كانت فعلا بحاجة إلى تصحيح ومعالجة. فصدام الذي اعتمد على ضعف إيران برهنت التجربة ميدانيا أنها ليست كذلك. وإيران التي اعتبرت الحرب عليها مفروضة تعاملت معها بصفتها ساحة للامتحان والاختبار ونجحت في التكيف مع شروطها.
حسابات خاطئة
المشكلة مع أحمدي نجاد أنه أخذ يكرر تلك الحسابات الخاطئة التي اعتمد عليها صدام في قراءة أفكار السنة الأولى من الثورة. فالرئيس الإيراني يعيد إنتاج السياسة الصدامية بأسلوب مقلوب سواء على مستوى القراءة والحسابات وسواء على مستوى الفعل ورد الفعل.
مثلا اعتبر أن رفض الدول العربية الإنجرار إلى حرب خليج رابعة هو دليل على قوة مطلقة لإيران وإشارة إلى ضعف مطلق للعرب. واعتبر أيضا أن تودد بعض الدول العربية ودعوتها إليه للمشاركة في لقاءات وندوات ومؤتمرات بداية عجز وخطوة للاعتراف بالاستسلام والتسليم. وأحيانا اعتبر أن تعاطف شرائح واسعة من المثقفين العرب مع مبادئ الجمهورية الإسلامية وحق إيران بالاستقلال والسيادة (بما فيها تخصيب اليورانيوم) ليس خطوة عربية لتأكيد التضامن (المصالحة) مع الجغرافيا والتاريخ ضد المشروع الأميركي - الصهيوني وإنما سياسة ايديولوجية تعادي الدول العربية بعيدا عن المصلحة المشتركة والحقوق العامة لكل المحيط الإسلامي - العربي. ولم تنتبه الرؤوس الحامية إلى أن مَن مع إيران ضد السياسة الأميركية ليس بالضرورة معها ضد العرب.
هذه القراءات الخاطئة للحسابات ساهمت في تعطيل فرصة للمصالحة وتطوير خطوات أسس قواعدها خاتمي ورفنسجاني سابقا خلال فترة رئاستهما للجمهورية امتدت 16 عاما. وبسبب الاستخدام السلبي للإشارات العربية الجيدة أدت التصريحات الايديولوجية إلى استفزاز المشاعر وإثارة النعرات وإيقاظ الهويات الضيقة وتوليد ديناميات مضادة تهدد جسور العبور والتواصل بالنسف.
الدول العربية ليست قوية ولكنها ليست ضعيفة إلى ذاك الحد الذي يتصوره أحمدي نجاد حتى يبالغ في تجاوزاته ويزايد كلاميا في وقت أصبحت تصريحاته تثير السخرية وتساعد على تشكيل قوة عربية مضادة تمتلك الكثير من العناصر والمواد القابلة للاشتعال. فالسياسة ليست شعارات هوائية تطلق في السماء وإنما مجموعة حسابات تحتاج إلى رجال دولة لأدراك أبعادها الواقعية التي تؤسس التقدم وفق منطلقات تتعامل بعقلانية مع الجغرافيا والتاريخ.
المصالحة التي صنع فلسفتها الإمام الخميني في سبعينات القرن الماضي لتصحيح العلاقة مع التاريخ والجغرافيا اعتبرها صدام آنذاك نقطة ضعف وفرصة للانتقام والثأر بدلا من أن يتعامل معها بصفتها قوة نوعية إضافية للعرب. كذلك دخل أحمدي نجاد في القراءة الخاطئة للحسابات حين اعتبر أن الانفتاح العربي هو إشارة للضعف وليس مناسبة للمصالحة وخطوة لإعادة تأسيس معادلة إقليمية مشتركة تعطل المشروع الأميركي ومخطط التفكيك والتقسيم والشرذمة.
أحمدي نجاد أساء الفهم وفوت على إيران والدول العربية فرصة سياسية للتآخي تحت مظلة المصلحة المشتركة وعلى قاعدة مصالحة تتحكم في شروطها الجغرافيا والتاريخ. فالفترة التي قضاها في الرئاسة أعطت علامات سيئة وأرسلت إشارات خاطئة ونسفت الجسور وزادت من مخاطر الانقسام وساهمت في توسيع الفجوة ولم تفلح في المقابل في التقدم خطوة بالاتجاه المضاد.
إيران فعلا تستحق رئيسا أفضل وهي أيضا بحاجة إلى رجل دولة لا يغامر بالمكتسبات التي حققتها الثورة ولا يعطل صدقية الجمهورية ويشوش على رمزيتها ورموزها. فهذا البلد الغني في تاريخه وحضارته وثقافته وثرواته وموقعه ودوره يمتلك أيضا ثروة بشرية هائلة في إمكاناتها وحيويتها تعطيها أفضلية لتصنيع الحلول وتطوير آليات تدفع المنطقة نحو الموادعة والمساكنة. فإذا كانت طهران تنتظر الآن تلك الفرصة للجلوس إلى طاولة واحدة للتفاهم مع إدارة باراك أوباما بشأن دورها ومستقبلها فإن الحاجة تتطلب أيضا من الرئيس الإيراني المقبل أن يبادر في طلب الجلوس إلى طاولة مشتركة للتفاهم مع دول المنطقة العربية القريبة والبعيدة بشأن تأسيس مظلة إقليمية تمنع الإنجرار نحو اصطراع مفتعل يعطي فرصة لرؤوس الفتنة للتدخل والتلاعب.
مبادرة خاتمي للترشح ومنافسة أحمدي نجاد تشكل خطوة إيجابية للتصحيح وإعادة الاعتبار لفلسفة المصالحة. وترشح خاتمي ليس مصادفة ولا طمعا بمنصب تولاه لمدة ثماني سنوات وإنما يعتبر إشارة إلى حاجة إيران إلى بديل يقوم بمهمات رجل دولة ولا يفرط بإنجازات ثورة. فالترشح ليس خطوة اعتباطية مهما كانت نتيجة الاقتراع في يونيو المقبل وإنما يعطي فكرة عن مأزق كان بإمكان إيران تجنب الدخول في تفصيلاته التي يمكن أن تنقلب عليها في حال بالغت في قوتها. المبالغة ليست سياسة وإنما مغامرة حتى لو كانت القوة كبرى كالولايات المتحدة في عهد «تيار المحافظين الجدد».
الشعب الإيراني هو الحكم في النهاية وهو الطرف المؤهل أو المكلف بالاختيار. فهناك الكثير من المترشحين للرئاسة غير خاتمي. مهدي كروبي دخل حلبة المنافسة، كذلك يدرس رئيس بلدية طهران محمد باقر قاليباف خطوة الترشح. وهناك احتمال أن يخوض غمار التجربة الكثير من الشخصيات والرموز. وبغض النظر عن تلك التقسيمات المفترضة والمفتعلة والتسميات التي تسقط مفردات على تيارات تصنف تارة «بالإصلاحية» وطورا «بالمحافظين» فإن إيران بحاجة إلى رجل دولة ينقذ إنجازات الثورة من ايديولوجية عشوائية ومغامرة. فالتصنيف الذي يفرز الاتجاهات بين إصلاحي وغير إصلاحي محافظ وغير محافظ براغماتي وغير براغماتي كلها غير دقيقة ولا تعطي فكرة عن الرئيس المطلوب. المطلوب رئيس صالح أو غير صالح. وبعيدا عن التصنيفات كل المترشحين حتى الآن أفضل من أحمدي نجاد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2350 - الثلثاء 10 فبراير 2009م الموافق 14 صفر 1430هـ