انتقد عمدة مدينة لندن كن ليفغنستون (من اليسار العمالي) حظر البرلمان الفرنسي الحجاب الإسلامي في المدارس الرسمية بغالبية 494 نائبا واعتراض 36. وهاجم عمدة العاصمة البريطانية الرئيس جاك شيراك متهما إياه بـ «اللعب بالنار» لأنه يقدم تنازلات مبدئية لحسابات انتخابية ولمصلحة تيار عنصري ينمو في الشارع.
كلام العمدة البريطاني هو الصحيح في ميزان قراءة الدوافع الحقيقية التي أملت على نواب البرلمان الفرنسي التكاتف على مسألة يمكن القول إنها لا تضر بالعلمانية بقدر ما تهدد حرية الاختيار وحق التصرف ضمن قواعد الدستور المدني. فالقانون الذي مرّر البرلمان القراءة الأولى لمشروعه وأحاله إلى مجلس الشيوخ لإدخال التعديلات عليه قبل إعادته إلى الحكومة لإقراره والبدء في تطبيقه في مطلع السنة الدراسية المقبلة يعتبر خطوة تراجعية أمام الهجوم الثقافي (الأيديولوجي) الذي باشره اليمين العنصري (الفاشي في جوهره) قبل سنوات.
والسؤال: أين نضع مسألة الحجاب في ميزان البحث عن المدلولات الحقيقية لمثل هذه الخطوة؟ هل تعتبر المسألة ذات صلة بالعلمانية وتهديد «قطعة قماش» كما يقول أنصار العنصرية (الفاشية) لمبدأ الدولة وسيادتها، أم إن المسألة تقع في هامش الحرية وحق الإنسان في ارتداء ما يراه مناسبا أو واجبا أو فريضة دينية؟
في أية خانة تقع مسألة الحجاب؟ هذا السؤال يساعد كثيرا في الرد على الموضوع؟ فإذا كانت «قطعة القماش» تهدد الجمهورية وشرفها ومعتقداتها وأصوليتها المتوارثة من أيام الثورة الفرنسية، فمعنى ذلك أن أفكار هذه الجمهورية ومبادئ ثورتها باتت هزيلة إلى درجة أنها لم تعد قادرة على تحمُّل مشهد الحجاب فأخذت الحياة تضيق بها إلى مستوى أنها مضطرة إلى الاعتراف بالهزيمة واللجوء إلى قانون القوة لمنع الاختلاف في منظر الحياة العامة.
إذا كان هذا هو الدافع فمعنى ذلك أن القرار لا يريد فقط منع الحجاب وإنما يهدف أيضا إلى حماية مبادئ جمهورية تجاوزها الزمن ولم تعد قادرة على التكيف مع الحياة والتطور لاستقبال المختلِف المقبِل إليها من الجهات الأربع. واللجوء إلى القانون لا يعني أن فرنسا نجحت في تخطي مشكلة ولكنها تغافلت عنها لتؤسس مشكلة أصعب وهي تغذية التطرف (والأصولية) في الاتجاه المعاكس. فالانغلاق يطوّر أو يوّلد سلسلة انغلاقات على الطرفين: التيار العنصري (الفاشية الفرنسية) لن يكتفي بانتصاره المحدود على الديمقراطية وحرية الاختيار بل سيستفيد من تراجع اليمين المتحالف مع اليسار (المهزوم أصلا) ليطوّر هجومه وينتزع المزيد من المكاسب القانونية عن طريق الضغط العنصري على الشارع.
مقابل تشجع التيار العنصري بالتراجع الفرنسي عن الحرية هناك ردود فعل القوى المضادة أو المتضررة من القرار الذي يمس سيادتها الثقافية. وهذا يفتح الاحتمالات على نمو تيارات تأصيلية تجد في «المشروع العلماني» الفرنسي ما يبرر نزعتها المتطرفة نحو إسلام متشدد ومنغلق يرفض التلاقح والتفاهم والانفتاح على الآخر. مشروع القانون الفرنسي لا ينهي المشكلة وإنما يفتحها على احتمالات أشد تطرفا في الجهتين: الفاشية العنصرية الفرنسية من جانب والتشدد الإسلامي من جانب آخر الذي يتغذى دائما من التطرف المضاد لتبرير وجوده وتفسير صحة تفسيره للنصوص. ومن هنا يمكن أن نفهم معنى كلام عمدة لندن عن التلاعب بالنار.
المسألة إذا ليست دفاعا عن علمانية مهددة وجمهورية مغلقة، إنها مجرد خطوة انتهازية (نفعية) تدخل في إطار حسابات انتخابية. وفي الانتخابات تزداد المبالغات وتتضخم الأمور ويغلب النفاق على العقل... إلا أن الخطر في المسألة ليس رفع شعارات انتخابية مؤقتة تزول بزوال الظروف وإنما هو نقل المؤقت إلى دائم من خلال إصدار قانون يعطي الحق بإهدار الحرية باسم العلمانية. فالقانون في حال إقراره نهائيا يعني عمليا تغليب العلمانية (كفكرة) على الحرية (كحق)، وبالتالي جرّ الناس إلى معركة أيديولوجية أبطالها نخبة من أهل التطرف والتشدد في الجانبين. وهذا هو الخطر الذي حذّر منه عمدة لندن. فالمسألة لها صلة بالحرية وحق الاختيار وليست تهديدا للعلمانية التي تدعي الرئاسة الفرنسية أنها تريد الدفاع عنها باسم القانون.
المشكلة في فرنسا هي في العنصرية وليست في الحجاب. والموضوع لا علاقة له بالحجاب وإنما بالنفاق السياسي. وحين يصبح النفاق يقود المصالح تسيطر على العقل أيديولوجيا تجمع اليمين مع اليسار تحت مظلة عنصرية - فاشية تقود معركة وهمية وتدخل في مزايدات «عقارية» على ما تسميه أدبيات القمع: «قطعة قماش»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 524 - الأربعاء 11 فبراير 2004م الموافق 19 ذي الحجة 1424هـ