كل بلد يواجه معضلة عندما يحاول صوغ نص تاريخي يعتمده رسميا في الكتب المدرسية وفي الإعلام، وهو ما نواجهه في البحرين منذ فترة غير وجيزة وهو ما بدت صعوبته بوضوح أثناء الاحتفال بيوم قوة دفاع البحرين 5 فبراير/ شباط الماضي.
الأميركان يواجهون مشكلة أشد لأن الشعب الأميركي يتكون من الانجلو-سكسوني الذي ارتكب مذابح في أوساط شعب أميركا الأصلي الذي أطلق عليه مسمى «الهنود الحمر»، ثم قام باستعباد الأفارقة السود، وبعد ذلك دخل حربا أهلية لعدة سنوات قَتل فيها الشمالي الجنوبي والعكس صحيح، وقام الاثنان بإجبار الأفارقة السود (العبيد) على القتال إلى جانبهم والموت دونهم على رغم أنه ليست لهم أية علاقة بالحرب الأهلية بين من استعبدهم. ثم كان العداء المستحكم من قبل مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية لليهود، وكيف أن أحدهم اقترح قانونا لمنع اليهود من دخول أميركا، هذا في الوقت الذي نعلم حاليا سيطرة اللوبي اليهودي على السياسة الخارجية لأميركا.
مع كل هذه التعقيدات استطاع الأميركان طرح تاريخهم بصورة مقبولة لمعظم فئات مجتمعهم مع عدم الإخلال بالنص التاريخي. فالذي يزور أحد المتاحف الأميركية سيقرأ وثيقة صادرة عن أحد «آباء» أميركا يشتم فيها اليهود، ويحذر الأميركان منهم. الوثيقة «وثيقة» ولا يمكن تغيير نصها لأن اليهود أصبح وضعهم الآن يختلف عما كان سابقا. ولكن المسئولين عن صوغ النص يضيفون تعليقات توضح للقارئ طبيعة الظروف التي كان يعيشها كاتب الوثيقة ونوعية المصطلحات التي لم تعد مقبولة في زماننا الحاضر ولكنها كانت هي اللغة السائدة آنذاك، وأن الأجواء والمعلومات المتاحة آنذاك أنتجت تلك اللغة. وهذا هو جزء مما يدعو اليه علم «الإبستمولوجيا» الذي ينظر إلى المعرفة كنتاج إنساني خاضع لظروف زمانية ومكانية.
أن النصوص الرسمية وغير الرسمية لتاريخ البحرين مازالت قاصرة عن المعالجة المتطورة، وهذا يفسر كيف أن النصوص تختلف في كل شيء، بل إنه يخيّل إليك وكأنك تقرأ تاريخ بلدان مختلفة لا يربطها أي شيء من قريب أو بعيد. وبما أن هناك مشروعا للحكومة لكتابة التاريخ في موسوعات فإن الخشية هي أننا سنقع في الأخطاء ذاتها، وسيحاول كاتبو التاريخ «تحوير» مجريات ما حدث وإعادة صوغ كل شيء ليتناسب مع متطلبات الكاتب في هذه المرحلة أو تلك.
وهذا هو الفرق بين موسوعات التاريخ التي كان يصدرها الاتحاد السوفياتي والموسوعات الصادرة عن المؤسسات البريطانية (الرسمية وغير الرسمية). فالاتحاد السوفياتي يطبع موسوعات ربما أكثر من بريطانيا، ولكن لم تكن لها أية قيمة، لأن كل موسوعة تُعاد كتابتها كلما تغير سكرتير للحزب الشيوعي لكي يتسلسل التاريخ، ويثبت أن السكرتير الجديد هو كل شيء وأهم شيء ولا شيء قبله أو بعده.
أما في بريطانيا فإنك تقرأ الكثير عن العوائل المالكة البريطانية وعن الشعب البريطاني وعن الشعوب الأخرى من دون تغيير يلمس جوهر ما حدث. والعائلة المالكة البريطانية لا تخجل من ذكر حوادث ليست بالمستوى الذي تحبه، ولكنها تطرح نفسها على أساس أنها تواكب متطلبات عصرها وشعبها.
إننا بحاجة إلى الاتفاق على أسس علمية متينة لكتابة التاريخ والاعتماد على قدراتنا لمواكبة متطلبات العصر، بحيث لا نكون سجناء لذلك التاريخ... نطّلع عليه من دون أن نخشاه ونخشى ما جرى فيه، وثم نؤسس لتاريخ جديد يحدث اليوم وغدا، لأن اليوم والغد بأيدينا، أما الماضي فقد خرج من أيدينا ولا نستطيع تغييره ولا يجوز تحويره وإعادة تحويره. ولذلك، فإن إحدى أهم سمات كتابة التاريخ في بريطانيا (بعكس الاتحاد السوفياتي) هي السماح بوجود عدة قراءات عندما لا يمكن الاتفاق على قراءة واحدة ومقبولة للجميع، والفرق بين بريطانيا والاتحاد السوفياتي واضح، فالوثائق البريطانية معتمدة في كل مكان، اما السوفياتية فلا قيمة لها ولايرجع اليها أحد ... وما نوده هو الأنموذج البريطاني وليس السوفياتي
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 524 - الأربعاء 11 فبراير 2004م الموافق 19 ذي الحجة 1424هـ