العدد 522 - الإثنين 09 فبراير 2004م الموافق 17 ذي الحجة 1424هـ

أفواه وبراميل

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

كان الإنسان في حيرة شديدة... كيف يمكن لهؤلاء المناضلين الأشداء والرجال الواعين أن يقوموا بالدعوة لنظام قمعي؟ ألا يرون القتل والاضطهاد الذي يقوم به ذلك النظام العراقي ضد مواطنيه، ألا يسمعون أنين الثكالى ولوعة فقد الأبناء، وبكاء الأيتام؟ ألا يشاهدون في مدنهم التي تضج بالناس أولئك العراقيين الذين تقطعت بهم السبل، وامتهنوا المهن الوضيعة بعد أن كانوا كرماء أعزاء في بلادهم؟

كل هذه الأسئلة كانت تدور في الذهن، لابد أن هؤلاء الذين كانوا يكتبون ومازالوا يكتبون بحماس ويتكلمون بقوة على شاشات التلفزيون وبمنطق منقطع النظير للدفاع عن أعمال وتصرفات النظام العراقي يضربون الأمثلة بعد الأمثلة عن أهمية التغاضي عن القمع ووسائله المريعة في سبيل محاربة (الشيطان الأكبر) وليس مهما ما يفعله النظام في أبناء وطنه من تجويع وتخويف وإرهاب وإفقار وإذلال ان كان ذلك كله يصب في محاربة ذلك الشيطان الأكبر (الولايات المتحدة الأميركية)!

كان الإنسان يشاهد ذلك ويسمع ذلك حتى غدا اللوبي الذي يدافع عن النظام القمعي اكبر من أن يحصى وأعظم من أن يعرف، وغدا القائل بعكس ذلك يعتبر شخصا أو أشخاصا تابعين للولايات المتحدة وفي معظم الأوقات أشخاصا فقدوا الوطنية وخرجوا عن الإجماع.

واعتقد كثيرون أن كل تلك الأفواه هي أفواه وحناجر صادقة تدافع عن شيء لا يراه عامة الناس، شيء مقدس خرافي يضمه الوطن وتحتضنه الوطنية، والناس العاديون اما مغفلون لا يرونه أو أصحاب مصالح وثارات يرغبون في تغطية عين الشمس!

وفجأة تتضح الصورة بعد انقضاء العاصفة السوداء، وتظهر الفضيحة كاملة غير منقوصة، تظهر على صفحات صحيفة «المدى» العراقية، التي لم تستطع وان كان لها من الزمان بضعة اشهر، إلا أن تغامر بفضح تلك القائمة الطويلة من المستفيدين، وقد ظهر أن هذا اللوبي الذي أهال علينا كل كلمات الوطنية وشعاراتها وأتهم غيره بالخيانة، وتجويع الشعب العراقي وحرمانه من حليب الأطفال، إذا به يشرب من (حليب الشعب وقوته) من كوبونات النفط التي وزعها النظام على كل من صفق ويصفق لصلفه، وعلى كل من أيد ويؤيد قتل شعبه، والى كل من ركض يبحث عن حليب أطفال العراق ليدخر منه دولارات في جيبه.

انه لوبي النفط الذي يمتد من عواصم كثيرة غربية وشرقية، ويطول أشخاصا ومنظمات وجدت أن الفرصة متاحة لها في تبادل الكلمات بالبراميل، وتحويل الزعيق إلى دولارات خضراء.

يقول فخري كريم صاحب وناشر صحيفة «المدى» الأسبوعية عندما مر ببيروت في أسبوع العيد إن لدى الصحيفة عددا من القوائم تشيب لها الولدان، وإن هناك حيرة شديدة في كيفية التصرف أو التعامل مع هذه القوائم، والعراق الجديد لم يبلغ أشده بعد، لكي يستطيع فيه أن يتابع ويحقق ويدين كل تلك الأسماء، ويقرر الصالح من الطالح، بل يتخوف أن اكبر فضائح العصر العربي في الفساد، قد يأتيها زمن قادم تختفي فيها الأدلة لمصالح أخرى قادمة!

من الأسماء التي ظهرت حتى الآن استجاب البعض بالتبرير ولاذ البعض الآخر بالصمت وآخرون شنوا حملة من دون خجل أو تواضع على أن تلك قوائم مزورة و«هاتوا برهانكم»، وتضيع في وسط هذه الضجة قبور العراقيين وعرقهم وأيضا الكثير من ثروتهم الوطنية.

قيل قديما ان (الحقيقة هي المصلحة) وهو قول حق في الغالب إلا أنه لم ينطبق قط كما انطبق على اللوبي البرميلي، الذي وجد نفسه في خندق واحد من باريس إلى عمان ومن صنعاء إلى فيينا، إلى درجة أن صحيفة «ليموند» الباريسية الرصينة، وهي تصدر في بلاد لها من المرجعية الصحافية ما لا يترك الخبر غير الصحيح يمر، بل يعرض ناشره للملاحقة القانونية، أن تقوم بنشر الفضيحة الخاصة بالفرنسيين على عدد من الأعمدة وفي الصفحة الأولى.

وتتناول صحف كثيرة هذا الأمر بتندر في البلاد العربية التي يسمح مجتمعها بحرية الصحافة والقول، وفي غيرها تُتناول بين الكواليس، ويمرر عدد صحيفة «المدى» الذي نشرت فيه القائمة الأولى بين الناس لكي يتتبعوا الأسماء ويتذكروا الوجوه!

لقد وجد أولئك أن الدفاع عن النظام العراقي في كل محفل يعني في نهاية المطاف أن هناك أموالا ستصب في جيوبهم، بعضهم يفلسف الأمر بأن هذه الأموال ستذهب إلى أهداف مناضلة، كالجماعات وقوى الضغط المختلفة، وبعضهم يفلسف الأمر بأنه إن لم يأخذ هو هذه الأموال والمنافع فإن آخرين ستكون من نصيبهم، فالأقربون أولى بها! وهكذا تتغير وتتنوع التبريرات ولكن الأهداف واحدة.

البعض ظهر على بعض شاشات التلفزيون العربية مبررا ذلك اللوبي الكوبوني الضخم بالقول إن بعض الدول الأخرى تشتري كتابا وصحافيين ووسائل إعلام كثيرة، فلماذا فتح النار والتساؤل عن ما فعله النظام العراقي السابق؟ وفي ذلك تبرير أسوأ بكثير من الفعل نفسه.

فلم تكن شعوب تلك الدول تئن من الجوع، ولم تكن شعوب تلك الدول تقتل بالجملة وتدفن في المقابر الجماعية، ولم تكن تلك الدول توزع حصص وكوبونات بيع النفط على المحاسيب، ثم ان الأمر كله لا يبرر الفعلة إلا في أذهان البعض من مرضى النفوس.

ان اكبر حملة للفساد والإفساد في عصر العرب الحديث تمت في السنوات العشر الأخيرة، وهي تفسر الكثير من المعارك الصحافية والسياسية، والحروب الكلامية والعلاقات المشبوهة التي تبلورت أمامنا، وتظهر بعمق وجلاء هشاشة صدقية جزء كبير من النخب العربية، وتهز الثقة بما تقول هذه النخب أو تفعل أو تبشر به، وتضع المستقبل العربي في موضع الشكوك.

تبادل أدوار البراميل النفطية بالأفواه الناطقة بغير الحق، والأقلام السائلة بغير المنطق والسياسات القائمة على المصالح الشخصية لم نر إلا بعض رأس الجبل منها و«هو جبل كبير ومتعدد الرؤوس»، وقد لجأ إليها النظام العراقي السابق ليس حبا في تقدير الكثير ممن والاه، ولكن اضطرارا لواقع مأسوي قام بصنعه حب التفرد بالسلطة، وهو درس الزعامات، وهو درس بالغ الأهمية يقول - إن أردنا العظة - إن افتقدت صوت شعبك، فلن يغنيك صوت من اشتريتهم، مهما بلغ هذا الصوت من جهر وعلو ومبالغة، فهو صوت فارغ من الحماس والصدق

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 522 - الإثنين 09 فبراير 2004م الموافق 17 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً