التسخير اللفظي لدحض الاتهامات ليست موهبة تقتصر على رجال القانون في محاولة مستميتة للدفاع عن موكليهم، لأن السياسيين أكثر موهبة في هذا المجال، بحكم أن دهاليز السياسة لا تخلو من خروقات وتجاوزات للمنطق عبر صور من الممارسات المضحكة المبكية، ما يدفع بعدد منهم «للتعلق بأستار اللفظ» في محاولة لتزويق وتجميل بشاعة المواقف والخروقات والتجاوزات تلك.
آخر تلك التسخيرات اللفظية، ما خرج به علينا وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في مسعاه لدحض الاتهامات الموجهة الى إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في شأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، والمعلومات الاستخبارية المتعلقة بها قبل ضرب العراق. فقد دافع عن نوعية معلومات أجهزة الاستخبارات التي تذرعت بها الإدارة لشن الحرب، إذ طالب من علت أصواتهم منادية بالتحقيق في عدم العثور على أسلحة محظورة في العراق - حتى بعد قرابة سنة من غزوه واحتلاله - بأن يبرزوا دليلا يثبت عدم وجود تلك الأسلحة. على رغم أن الرئيس الأميركي ذاته وقبل أيام أعلن في مؤتمر صحافي بأنه لا دليل على وجود أسلحة دمار عراقية، وقبله أعلن مدير وكالة الاستخبارات الأميركية جورج تينيت أن الإدارة الأميركية لم تقل ان العراق يشكل خطرا كبيرا على الولايات المتحدة.
تكشف مطالبة رامسفيلد عن تفاقم حال من «الإملاءات» أصيبت بها إدارة بوش تكاد تقترب من الحال المرضية في الإدارة ذاتها ومن بين أعضائها رامسفيلد، والتي لم تقدم دليلا واحدا ولو واهيا، ومهما كانت درجة الاختلاف بشأنه، يؤكد مزاعم الإدارة الأميركية بوجود تلك الأسلحة، فيما هي واثقة وقد استقر في وعيها وقناعتها انها غير مطالبة من أية جهة - لأنه لا جهة تملك فرض ذلك - بتقديم ذلك الدليل، طالما انها حققت سيناريو وجودها شبه الأبدي في المنطقة وبشكل سافر، وصولا الى محاولة تقويض المناهج والسياسات وربما الجغرافية، عدا عن منجم «ذهب الطاقة» القابع تحت تراب المنطقة.
وفي مواجهة هذا التسخير اللفظي الذي ترعاه الإدارة الأميركية ويواجه بحال من الرفض والامتعاض من قبل ناشطين سياسيين ورجال أعمال ومثقفين، يبرز موقف الملياردير الأميركي جورج سوروس - يدير صندوق استثمار يبلغ رأس ماله 11,5 مليار دولار - والذي تبرع بـ 12,5 مليون دولار لدعم منافسي بوش الديمقراطيين، والذي صرح حديثا «انني أشعر بقلق شديد لأن الحكومة الأميركية تستغل المخاوف التي أثارتها حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 لتحقيق أهدافها»، وأضاف «يقال كثيرا ان هذا العمل الإرهابي المروِّع غيّر العالم، لكن العالم لا يتغير بالطريقة التي ترد بها إدارة بوش على هذا «الإرهاب» الطريقة التي تستغله وتستخدمه بها لتقييد الحريات المدنية والسعي باستماتة إلى حُكم العالم».
لم يتردد «سوروس» في خشيته من تبني الإدارة الأميركية لنظام شمولي، كما هو الحال في أوروبا الشرقية قبل سقوط الأنظمة الاشتراكية، إذ قال في هذا الصدد «لقد عشت في ظل أنظمة شمولية في المجر في عهد كل من النازيين والشيوعيين، وأخشى أن تكون إدارة بوش ماضية في هذا الاتجاه».
رامسفيلد والمتطرفون السياسيون في إدارة بوش استمرأوا مثل ذلك التسخير اللفظي، في ظل إرادة دولية معطلة، وفي ظل استفراد مطلق بشئون العالم، لأنه ما من أحد يملك القدرة على دحض منطق يذهب الى الحدود القصوى من تكريس الأكاذيب مقابل تغييب جملة من الحقائق
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 521 - الأحد 08 فبراير 2004م الموافق 16 ذي الحجة 1424هـ