الدعوة التي وجهتها اللجنة التحضيرية إلى جلالة الملك لحضور المؤتمر الدستوري الذي ستعقده الجمعيات السياسية الأربع الأسبوع المقبل لإلقاء كلمة عن الموضوع تعبر عن شجاعة في الطرح الذي اتبعته اللجنة التحضيرية. فالدستور ما هو إلا اتفاق متعدد الأطراف ينبغي ان يتراضى عليه الجميع.
الدستور المعتمد في الدولة الحديثة له مفهوم نموذجي أنتجته الثورة الفرنسية العام 1789م، وهذا الفهم النموذجي يقول إن الدولة (بمعنى الجهة التي تتولى السيادة على حدود جغرافية محددة) يجب أن تنبع من إرادة عامة، وإن جميع أطراف هذه الإرادة هم في الأساس «مواطنون متساوون» في الصفات والحقوق والواجبات. وعليه فإن من يمثل الدولة يجب ان ينبع وينتخب بشكل واضح (سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) من المواطنين المتساوين في الحقوق المدنية والسياسية.
هذا الطرح النموذجي هو الذي تتغنى به جميع الدساتير في مختلف أنواع الدول، الديمقراطية منها والدكتاتورية، إذ لا يوجد من يقول إنه لا يمثل الإرادة العامة للشعب.
الطرح الدستوري الآخر - الذي لا يناقض في جوهره الطرح الفرنسي النموذجي - هو ما أنتجته التجربة الإنجليزية التي آمنت بأن الدولة تتمثل في عائلة مالكة، وان هذه العائلة تفاهمت مع الآخرين - بادئ الأمر مع الإقطاعيين (اللوردات) ولاحقا مع عموم الشعب - على أساس مقبول، بحيث تكون للعائلة المالكة رمزية الدولة، وللشعب ممارسة سيادته على نفسه برعاية تلك الرمزية.
في كلتا الحالين فإن الترتيب الدستوري (حتى لو كان الدستور غير مكتوب كما هو الحال في بريطانيا) يقتضي وجود طرفين على الأقل لانعقاد الدستور كما ينعقد الاتفاق الذي يتطلب توقيع الأطراف الداخلة في الاتفاق عليه.
وهذا هو جوهر الحوار الوطني الحالي، فالبعض يرى أن الدستور الجديد بحاجة الى موافقة عليه من الطرفين بصورة أوضح، والطرفان المقصودان في هذه الحال هما العائلة الحاكمة وممثلو الشعب، كما هي التجربة الإنجليزية التي يطلق عليها تعبير «التجربة الديمقراطية العريقة». البعض الآخر يطرح أن ميثاق العمل الوطني أعطى تفويضا لجلالة الملك لإجراء التعديلات، وان هذا التفويض يكمل متطلبات الاتفاق الوطني.
الحوارات بدأت متشنجة ولكنها وبحكمة الطرفين (القائلين بهذا الرأي أو ذاك) استطاع المجتمع البحريني أن يبرز وجها ناصعا للديمقراطية في الحوار. فالمعارضون للرأي الرسمي يستطيعون - بفضل التسامح الديمقراطي - عقد مؤتمر لهم في أحد الفنادق، وجلالة الملك أعطى الأمان للرأي الآخر، وأكد ذلك مرارا، وآخرها كان أثناء اللقاء مع رؤساء تحرير الصحف في ديسمبر / كانون الأول الماضي.
مما لاشك فيه أن الحوارات ستساهم في تطوير الممارسة السياسية والنص الدستوري سواء على المدى البعيد أم القصير. فالإرادة السياسية الملتزمة بالأساس السلمي للعمل الوطني تستطيع التعاطي الإيجابي مع الواقع. والتعاطي مع الواقع له أساليب متعددة، وهذا سبب اختلاف جمعيتي المنبر الديمقراطي والوسط العربي مع الجمعيات الأربع. فعلى رغم اتفاق الجمعيات الست على وجهة النظر تجاه المسألة الدستورية، فإنهم يختلفون في طريقة التعاطي.
ولأنه ليس هناك صح مطلق وخطأ مطلق (لان السياسة تقوم على النسبية في غالبية صورها)، فإن طريقة التعاطي المختلفة ستفيدنا جميعا أكثر مما تضرنا، وما علينا إلا قبول التعدد في أسلوب التعامل، كما انه مطلوب منا أن نقبل التعددية في الطرح والممارسة. فالتعددية أساس مهم من أسس الديمقراطية، والجميع (حاكمين ومحكومين) سيستفيدون من السماح لبعضهم بعضا تداول الآراء بصورة حضارية وسلمية، كما هو الحال الان
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 521 - الأحد 08 فبراير 2004م الموافق 16 ذي الحجة 1424هـ