اختتمت البارحة فعاليات ملتقى الأديب العربي الكبير الطيب صالح، الذي نظّمه النادي السوداني بالتعاون مع مركز كانو الثقافي، تزامنا مع الذكرى الأولى لرحيله، بحضور مستشار الرئيس السوداني للشئون السياسية مصطفى عثمان إسماعيل (وزير الخارجية سابقا)، وسفيري السودان السابق والحالي بالمنامة.
في الليلة الثانية غصّت قاعة نادي الخريجين بعددٍ كبيرٍ من الأخوة السودانيين، ربما لأنهم قرّاء أدبٍ وثقافة، وربما لأنهم يشمّون فيه رائحة الوطن في الغربة. فهو الأديب الذي استطاع أن ينقل قريته الزراعية الصغيرة (كرمكول، مركز الدبة) المحاطة بكثبان الرمال، ليزرعها حديقة غنّاء في بستان الأدب العالمي.
الطيب صالح غادر قريته للدراسة في بريطانيا (البلد المستعمر للسودان)، والتحق بالـ «بي بي سي»، لينفتح أمامه عالمٌ جديدٌ من العمل والتجارب التي صقلت قدراته وإمكانياته. وهو في الغربة لم ينس قريته، التي عاشت ملتصقة بمسام جلده، وتسربت مفردات مدائحها النبوية إلى قاموسه اللغوي. وظلّ يتذكرها بعد خمسين عاما، ويحنّ إليها حنين الفصيل إلى أمه، فهو يرى فيها صورة للمجتمع في صدر الإسلام، لما كانت تتمتع به من حميمية وعلاقات إنسانية صادقة، فلم يكن يبيت إنسانٌ فيها شبعانا وجاره جائع كما قال.
أول معرفتي به من خلال مقالٍ جميلٍ قرأته أيام الغربة في أحد أعداد مجلة «الدوحة» منتصف الثمانينيات، كان في الأصل كلمة ألقاها في أمسية ثقافية ربما كانت في تونس. المقال على غير عادتي، قرأته عدة مرات للذته، فأنت تكتشف كاتبا يدمج الجد بالهزل، بلغةٍ أدبيةٍ راقيةٍ، ومضمونٍ رفيع.
في أقرب فرصةٍ طلبت مجموعته القصصية الكاملة، وغرقت في قراءتها بنهمٍ دون توقف حتى أتممتها في غارةٍ خاطفة. هذه الطريقة الجنونية أضاعت عليّ استيعاب كل روايةٍ على حدة، لكنها جعلتني أعيش أياما متواصلة متنقلا بين السودان وبريطانيا، في عوالم شديدة التناقض، بين مجتمع متحرر في عالمٍ صناعي، وقرى مازالت تحافظ على تقاليد الدخلة ليلة الزفاف كما يحدث في عالم الطرق الصوفية.
الأديب الطيب كان يحبّ شعبه حبا شديدا، فعبّر عنه بصدقٍ دون ترفعٍ أو تبجح وادعاء، ولم يسقط صريع لوثة الحداثة رغم أنه عاش على ضفافها هناك. الالتصاق بالوطن والتعبير عن واقعه، وامتلاك ناصية اللغة والفن، كلها عوامل فتحت للطيب صالح أبواب العالمية، فتُرجمت أشهر رواياته (موسم الهجرة إلى الشمال) إلى أربعين لغة، وقُدّمت وبقية أعماله على المسرح والسينما... «عرس الزين»، «دومة ود حامد»، «ضو البيت»، «مريود»، و... «بندر شاه» التي يعتبرها أهم أعماله الروائية. وله مقالات متنوعة صدرت في عشرة أجزاء، بث فيها أفكاره في مجال السياسة والثقافة والفن والفكر وحياة الوطن والناس.
لم يكن الرجل يحب السياسيين أو يثق بهم، فآراؤهم تتبدّل مع تبدل الظروف وتغيّر رياح المصالح، وهم يريدون للمفكر أن يتبدّل معهم ويصبح ضمن الجوقة، فيطفئ المصباح ويدخل ضمن القطيع، وهي «قضيةٌ متعبة» حسب تعبيره. وفي أحد آرائه السياسية يذهب إلى الدعوة إلى أن تكون السجون للقتلة والسرّاق والمجرمين الحقيقيين.
مات «عبقري الرواية العربية» العام الماضي (18 فبراير)، وقدمت عنه أكثر من عشرين دراسة للدكتوراه في لبنان والمغرب العربي، وأقيمت له عدة مواسم في عواصم عربية وأجنبية، وتعتز المنامة باحتضانه هذه الأيام في موسم هجرته إلى البحرين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2711 - السبت 06 فبراير 2010م الموافق 22 صفر 1431هـ
أجودي
تسلم يا سيد. على هذه الإضائه. الى هذا الأديب الرائع.... بل واكثر من رائع. تحياتي لك يا سيد.....
هذا هو ميدانك
صراحة انت هذا مجالك الأصلي الادب والتاريخ، مو السياسة اللي ذابحه البحرينيين ذبح.ياليت تكتب في الادب والتاريخ أكثر بدل السياسة اللي ما تجيب إلا الهم والغم.
أهلا بالطيب صالح
المقال قليلة كلماته ولكن في المقابل عميق في معناه سودانية مقيمة في البحرين شكراً على روعة عمودك ..
أعجبتني "ايام الغربة" !!
أعجبتني حقيقة بتعبير "أيام الغربة". حقا هي غربة بل عزلة عن العالم. أجمل ما في تلك الغربة أو العزلة هو أن البعض يستطيع أن يتفرغ وينتج ويرجع منها بشيء يستفيد منه والبعض الآخر يرجع من تلك العزلة كما دخلها بلا إضافات لحياته.
وهي غربة وعزلة مرة على كل حال حتى لو كانت لمدة يومين فقط فما بالك بها إذا استهلكت نصف العمر؟
تحياتي
آه يا موسم الهجة إلى الشمال !!
ذكرتني بأالأيام الخوالي! كنت أنكب على قراءة روايات الطيب صالح التي لم أقرأ مثلها نصاً محلياً سوى رواية( زينب ) لمحمد حسين هيكل وذلك في فترة الصبا ,, وقد عشت معه في أجواء الريف المصري الذي حرص على إستحضاره في روايته وهو يكتبها في سويسرا ,, وكان يقول إنه يوصد ستائر النافذه لينقطع عن العالم الخارجي عند كتابتها ,, هكذا هم الأصلاء لا ينسون أُصولهم .
أما الطيب صالح فعالمُ من الصدق في الروايه حتى اللهجة السودانية الغريبة عنا زرعها في وجداننا ,, أتمنى لو طُبعت أعماله الكامله ووزعت على المهتمين.