ما أن يطرح موضوع البحث عن صيغة أو صيغ مختلفة للعمل المشترك بين تيارات الكتلة الديمقراطية، حتى تعلو بعض الأصوات محذرة من مغبة حرق المراحل، داعية إلى التأني ونبذ الاستعجال تحت مبرر يقول «أن الظروف لبروز كتلة وطنية ديمقراطية لم تنضج بعد، وأنه من الأفضل التريث اليوم حتى تنضج تلك الظروف، بدلا من الاستعجال وحرق الطبخة». وقبل مناقشة صحة أو خطأ مثل هذه المقولات أو الدعوات لابد من تسليط الضوء على الجهات التي تنادي بها، والمصالح الكامنة وراءها.
يتوزع دعاة عدم نضج الظروف على الفئات التالية:
1. الفئة المضادة، وهي الفئة التي ترى في بروز تيار وطني ديمقراطي تهديدا مباشرا لمصالحها المادية، ونسفا كاملا لمقولاتها السياسية.
هذه الفئة تقف في الضفة المناهضة لأي مشروع ديمقراطي، لأنها ترى استحالة التعايش معه، ناهيك عن عدم رغبتها في مد جسور التعاون مع البرامج التي يطرحها.
الوجود الفعلي لهذه الفئة لا ينحصر في إدارات السلطة التنفيذية، والقوى السياسية المرتبطة بها فحسب، لكننا أيضا نستشعر نفس أطروحاته في أروقة ودهاليز بعض أطراف محسوبة على قوى المعارضة. ولذلك فلدى هذه الفئة مصلحة مباشرة في التصدي لأي مشروع يتبنى برنامج لتكتيل القوى الوطنية الديمقراطية تحت مظلة واحدة. هذه الفئة لا تكفّ عن الترويج لكل ما من شأنه إشاعة اليأس في صفوف دعاة الاستعجال في التأسيس لهذا المشروع الرائد.
2. الفئة المنافسة، وهي تلك القوى التي تختلف مع التيار الوطني الديمقراطي على الصعيدين السياسي والإيديولوجي، ومن ثم فهناك مساحات ضيقة تتقاطع فيها برامجهما بشكل تكاملي، مقابل مساحات واسعة من التعارض الذي لا يصل إلى مستوى التناقض، كما هو الحال مع الفئة الأولى، لكنه يحول دون اقتراب تلك القوى بشكل إيجابي من ذلك التيار.
هذه الفئة لا يقتصر وجودها في صفوف المعارضة، بل نجد أيضا، من بين رموزها من ينضوي تحت مؤسسات السلطة التنفيذية.
هذه الفئة تخشى أن يفقدها بروز تيار ديمقراطي جزءا من قاعدتها الجماهيرية، ولذلك فهي تتعاطى بحذر شديد مع تلك الدعوات.
لا تفصح هذه القوى عن معاداتها لبروز هذا التيار، لكنها لا تكفّ عن الترويج لعدم ملاءمة الظروف لبروزه، في مجالسها الخاصة، وقنواتها غير العلنية، كي لا يكون هناك ضدها أية شواهد قوية ملموسة.
3. الفئة المترددة، وهي المنتشرة في صفوف التيار الديمقراطي ذاته، وتعمل في منظماته المختلفة، لكنها، ومن منطلق ضيق الأفق، غير واثقة من ضمان أن يقود اتساع جبهة العمل الوطني الديمقراطي، إلى الخضوع لسيطرتها التنظيمية الذاتية على تلك الجبهة أو حتى على قواعدها التنظيمية من أعضائها هي، وتخوفها، بالتالي، من «إفلات» زمام السيطرة من يدها.
يغلب على سلوك هذه الفئة صفة التردد، ولذلك نراها تتقدم خطوة نحو المشروع، ثم لا تلبث أن تعود خطوتين نحو الخلف. هذا التأرجح بين الأمام والخلف، ليس مربوطا برؤية إستراتيجية، بقدر ما هو تعبير عن عدم الثقة في النفس المشوب بخوف مما يحمله المستقبل. هذا التردد، بعيدا عن نوايا هذه الفئة الطيبة، ينشر سحب اليأس في سماء مساعي التأسيس لعمل وطني ديمقراطي أصيل، ويصب في طاحونة الفئتين السابقتين.
4. الفئة الحذرة، وهي الأخرى موجودة بين صفوف القوى الديمقراطية، لكنها، ومن منطلقات حسنة النية، تخشى، صدقا، أن تكون الظروف غير ملائمة، وليست غير ناضجة فحسب، وبالتالي فهي – أي الظروف القائمة - غير مناسبة للبدء في التأسيس لعمل وطني ديمقراطي. ومن ثم فمن الأفضل التريث كي لا تأتي النتائج بعكس الطموحات والتوقعات، فتكون العواقب سلبية والنتائج مضرة بمشروعات العمل الوطني الديمقراطي المشترك.
هذه الفئة بوعي أو بدون وعي، تسكب الزيت على نار الدعوات المحبطة لهمم الساعين لبناء تلك الجبهة العريضة.
كي لا يشيع هذا التصنيف روح التشاؤم في صفوف دعاة البدء في العمل من أجل التأسيس لقيام كتلة سياسية تحكمها رؤية وطنية ديمقراطية، لابد من التأكيد على أنه مقابل تلك الفئات جميعها، هناك كتلة لا ينبغي الاستهانة بحجمها السياسي، ولا حضورها الجماهيري، بالإضافة إلى خبرتها السياسية الغنية، لم تكفّ عن الدعوة والعمل في آنٍ من أجل بلورة شكل تنظيمي يحمل راية العمل الوطني الديمقراطي.
هذه الكتلة، قد تبدو أنها أغلبية صامتة، لكنها في حقيقة الأمر، تعمل بدأب ودونما كلل من أجل إنجاح هذا المشروع الوطني.
هنا نصل إلى بيت القصيد، وهو الإجابة على سؤال: من ينضج الظروف؟
الإجابة، قد تبدو صعبة ومعقدة، لكنها في حقيقة الأمر في غاية السهولة، ولا ينبغي أن تغيب عن أذهان أي منا في أية لحظة. إنه الإنسان ذاته. ففي السياسة، تماما كما في أنشطة الإنسان الأخرى مثل الزراعة، يعرف الإنسان، أكثر من غيره من المخلوقات الأخرى، أن عوامل الطبيعة المختلفة، قادرة على «إنضاج» الثمار والمحصولات، لكنه مع ذلك، وحده دون سائر المخلوقات الأخرى، لا يكفّ عن التدخل المباشر وغير المباشر من أجل، حماية المحصول أولا، وتحسين نوعه ثانيا، والإسراع في وتيرة نضجه ثالثا وليس أخيرا. المحصلة النهائية هي تضافر مجموعة عوامل، بين الإنسان والبيئة المحيطة به من أجل توفير أفضل الظروف للمحصول.
المسألة لا تختلف في التفاعل الإيجابي مع البيئة السياسية عنها في التعامل المشابه مع الساحة السياسية، فالإنسان، دون غيره هو القادر على إنضاج الظروف، بدلا من انتظارها، كي تكون ملائمة للمشروع السياسي الذي يناضل من أجل تحقيقه.
لا أحد ينكر صعوبة التأسيس لجبهة وطنية ديمقراطية واسعة وعريضة اليوم في البحرين، لكن تلك الصعوبة ينبغي أن تتحول إلى تحدٍّ ينبغي التعامل معه، بدلا من اعتبارها صعوبة كأداء لا يمكن تجاوزها. وتماما كما في العمل الزراعي، يقع العبء الأكبر على حماية البيئة الزراعية على المستفيد الأول والأكبر منها، كذلك تقع مهمة بناء هذه الجبهة على القوى ذات المصلحة المباشرة في تأسيسها. حينها، شاءت الفئات الأربع التي أشرنا إليها أعلاه، أم أبت، فلن تجد ملاذا من التعامل مع هذه الجبهة. وفيما عدا ذلك يصبح الحديث عن عمل ديمقراطي جادّ مجرد ثرثرة مقاهي وحديث أرصفة لا يسد حاجة ولا يغني من جوع
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2711 - السبت 06 فبراير 2010م الموافق 22 صفر 1431هـ