فقد العربُ في الفترات التاريخية الأخيرة – وبالتحديد منذ بداية عهد السيطرة الغربية/ العربية على بلادهم - السيطرةَ على وجودهم، وتحكم الآخرون بمصائرهم وثرواتهم، مما أدى إلى تعميق إحساسهم بالمذلة والخسارة، وفَشَلهم في تسيير شئون مجتمعاتهم، وفقدانهم لإرادة التأثير النوعي الفاعل – أو على الأقل التبادل الندي - مع الآخرين.
وقد ساهم هذا الانكشاف الخطير في الممارسة العملية لمنعكسات المفاهيم والأفكار التي اعتقد بها العرب، ساهم في تحويل كثير من عناصر ثقافتهم الدينية – بمختلف مفرداتها وعناوينها - إلى مجرد حالة تقليدية جامدة يلفها رداء التقديس التاريخي المزيف، وتضجّ برواسب التخلف والتحجر والسكون، ولا توحي بأي معنى من معاني الحيوية والتفاعلية والتبادلية والتأثير العملي في واقع الحياة والعصر.
وكان أعظم ما توصلوا إليه من التزام هو أن يبقوا محافظين على ممارسة شعائرهم الدينية وطقوسهم التقليدية من دون أن يكون لها أية صلة – مباشرة أو غير مباشرة – بقضايا الحياة المصيرية التي ترتبط مباشرة بوجودهم وتطورهم ونهوضهم الحضاري المنشود كالحرية والاستقلال والعدل والتنمية والوحدة... إلخ.
هذا وقد حاول العرب إقامة تجارب وتجليات عملية لقضايا الحق والعدل والحرية والوحدة في بلدانهم، ولكن محاولتهم تلك لم تنجح عموما بالرغم مما وفّروه لها من قاعدة نظرية واسعة الطيف والامتداد... فمثلا على صعيد الوحدة، قدم لنا التاريخ العربي الحديث نماذج عديدة لتجارب وحدوية فاشلة تتأكد من خلالها حقيقة أن الوحدة لا تعني التوحد القسري القائم على نفي كل أشكال التعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في المجتمعات العربية والإسلامية. لذلك فقد استخدمت هذه المدارس كل ترسانتها وإمكاناتها النظرية والعملية في سبيل محاربة تلك الحقائق وإقصائها من الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي.
ولكن وبعد حدوث تطورات عديدة شهدها العالم عموما وجدنا بأن كل الوسائل والأساليب المستخدمة من قبل تلك المدارس لتذويب هذه الحقائق ونفيها من الخريطة العربية باءت بالفشل والإخفاق، ولم تستطع هذه المدارس أن تحقق مفهومها للوحدة القائم على القسر والنفي والإلغاء، بل أوجدت أثرا عكسيا في الواقع العربي، حيث ازدادت الكيانات الصغيرة التي تعمل على الحفاظ على هويتها الخاصة وعوامل تميزها أو اختلافها التاريخي أو الطبيعي.
وبهذا نستطيع أن نقول، بأن الوحدة والتكاملية لا تعني التطابق التام في وجهات النظر ومشروعات العمل أو أولوياته أو في طرق التفكير والتخطيط...، وإنما تعني ابتداء احترام الحقائق والوقائع التاريخية والطبيعية، والعمل بشكل وحدوي على ضوء تلك الحقائق والوقائع، وعدم نفي الخصوصيات وإقصاء حالات التنوع على الأصعدة التاريخية والثقافية والسياسية.
فالالتزام السياسي بمفهوم الوحدة، لا يقضي بأن يكون الجميع محل اتفاق حول كل المسائل. لهذا فإن الإصرار على صهر التكوينات والتعدديات والمذاهب في بوتقة أو مذهب واحد، هو بحد ذاته إصرار على زيادة وتوسيع رقعة وجغرافية الانقسام والتفكك العربي، لأن في هذا الإصرار دعوة إلى عدم التعاون والتآلف فيما بينهم، ومحاولة لوضع المسائل الثانوية (الفرعية) مكان المسائل الجوهرية.
من هنا لابد من القول والتأكيد على أن البذرة والنواة الأولى اللازمة لتشكيل وصياغة مشروع التكامل العربي، هي في تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع ونسبية الحقيقة وإشاعة الانفتاح والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء، تتبلور قيم التكامل الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار التكامل والتوحد العربي خالٍ من أي مضامين عملية، ويبدو أشبه ما يكون بالطبل الأجوف، ضوضاء وصخب من دون فعل حقيقي... صراخ يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية، ولكن بدون أن يتحول هذا الشعار إلى حقائق ووقائع تملأ كل أوطان العرب وبلدانهم.
ومن المعروف لنا جميعا – في التاريخ السياسي العربي - أن العرب حاولوا مد جسور التقارب بين مختلف مذاهبهم وتياراتهم الفكرية والدينية كخطوة أولى على طريق الوحدة الكبرى، ولكن كانت هناك ثمة عوامل داخلية ذاتية، حالت دون نجاح محاولات التقريب المتعاقبة، وسوف تقف موانع وعوائق دون إدراك المراد ما لم تعالَج، وأهمها:
1. سيادة عقلية الاستبداد والسيطرة وكاريزما القيادة المعصومة على مناهج وثقافات العرب بصورة عامة.
2. تغييب إرادة العمل السياسي الجماعية، وتكريس عقلية وإرادة العمل الفردي المشخصن الذي يختصر ويختزل الأمة كلها في شخصية الحاكم الفرد.
3. عدم وجود قاعدة فكرية ومفاهيمية واضحة لدى كل الفرقاء تؤسس لإرادة الاجتماع، وهو ما يتجلى لنا أكثر من خلال غياب الإرادة القانونية والتشريعية، حيث أن كل فرقة (دينية أم سياسية) تتغنى بأمجادها وثقافاتها الخاصة، وتدعي لنفسها النجاة والخلاص الفردي لا الجماعي. من هنا اعتقادنا ورؤيتنا أن الدعوة إلى المشروع العربي التكاملي في ظل واقعنا المأزوم الراهن، والتي تتزايد وتائر الحديث عنها في أوقات المحن والقلق السلبي، كما هو حاصل حاليا في حروبنا وغزواتنا الصغيرة والكبيرة هنا وهناك من عالمنا العربي، لا بد وأن تأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
أولا: الحاجة الماسة إلى إعادة صياغة وبناء وإنتاج الشخصية العربية المتوازنة، بحيث يشعر العرب – في هذا العالم المفكك والمضطرب – بالصفة العملية الواقعية في كل مواقع وجودهم وانتماءاتهم باعتبار أنهم يمثلون حضارة إنسانية مميزة في أفكارها ومفاهيمها وانفتاحها على باقي الأمم والحضارات، مما يفرض عليهم العمل على تحقيق التكامل السياسي والاقتصادي، من خلال التأكيد على عناصر هذا التكامل الفكري والمنهجي في كل الواقع العربي بما يضمن تحريك وتوجيه مشاعر العرب باتجاه تكاملهم وتوحدهم أعلى المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية ضمن دائرة التنوع الحضاري...
ثانيا: السعي الدؤوب باتجاه صنع وإنتاج القوة على المستوى الفكري والسياسي من خلال إعداد خطط عملية خاصة بتنمية الطاقات الكثيرة المتنوعة الموجودة في عالمنا العربي في داخل الأرض وخارجها، وتحويلها إلى عنصر مساهم – بكل قدراته – في بناء الذات العربية، وصنع قوتها الحضارية على أساس التكامل والتوازن والوعي للواقع.
وهناك نقطة مهمة لا بد من طرحها دائما وهي أن سنة الله في خلقه لا تعني ثبات الأحوال، وبقاء المواقع على ما هي عليه. فالوجود متحرك من واقع إلى آخر، ولا يهدأ على حال من الأحوال، والمتغير هو الثابت الكوني الوحيد.
ويبدو لنا أن هذا الأمر يشكل القاعدة الأساسية في تكوين وبناء الحركية التاريخية القادرة على تحديد أهداف - وبلورة استراتيجيات - الدخول إلى أجواء التنافس أو التفاهم مع الأطراف الدولية الأخرى. أي المنافسة على القدرة والمبادرة والفعل، وبالتالي انتزاع اعتراف الآخرين بقدرة العرب على النهوض والارتقاء والمنافسة الندية.
ثالثا: ضرورة أن يتحمل المثقف العربي المسلم مسئولياته الفكرية النقدية كاملة، ويراجع تعبيراته ومشاريعه والتزاماته، في أن يبتعد قليلا عن أجواء السجال والميدان السياسي اليومي للحدث فقط، فيما تكمن الأزمة - جوهريا - في كيان الأمة الثقافي والمعرفي بامتياز.
وهذا الأمر يحتم على المثقف العضوي النقدي أن يحول عمله وإنتاجه إلى قرار وسلوك وعمل وأخلاقيات تعامل في ممارسته لسلوكية الحوار الشامل والسجال النقدي الموضوعي في جدية طرحه لأسئلة النهضة والتقدم.
* كاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org.»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2707 - الثلثاء 02 فبراير 2010م الموافق 18 صفر 1431هـ