نهاية المعتزلة لم تكن واحدة. هناك نهايات لفرقها، فهي لم تسقط فجأة، ولم تذهب بضربة واحدة. ببساطة المعتزلة اختفت عن مسرح التاريخ بعد أن فقدت مبرر وجودها وبات استمرارها عديم الفائدة حين تقلصت وظائفها. ولأن المعتزلة حركة ايديولوجية تواصلت تأثيراتها الموضعية من دون أن تقوى على إعادة انتاج نفسها. فالزمن سبقها بعد أن تخلفت وظائفها ولم يعد بمقدور قادتها الرد على الأسئلة العملية.
انتهت المعتزلة إلى نهايات متعددة واستغرقت النهايات فترات زمنية أخذت فرقها تتلاشى واحدة بعد أخرى. فالنهايات كانت أقرب إلى التداعي ثم الاضمحلال وأخيرا تبخرت حين تحولت فروعها إلى مجرد وجهات نظر، يأخذ بها بعض القضاة أو الشيوخ من دون أن تحسب عليه ايديولوجيتها. فالنهايات لم تكن سعيدة كلها ولم تكن أيضا حزينة. فهي انتهت لأن كلامها اضمحل بعد أن فقد معناه ولم يعد يثير الكلام المضاد... فهو مجرد كلام لا قيمة معرفية له أصيب بالتفكك بعد أن فشل في التطور للوصول إلى منظومة موحدة تعتمد منهجية في القراءة والرؤية.
امتدت نهايات المعتزلة من القرن الرابع إلى القرن الخامس للهجرة وعاش شيوخها على هامش الوقت ورحلوا من دون أن يتركوا التأثير المطلوب على الاجيال التي عاصرت فترة الدولة البويهية وما بعدها.
في مطلع القرن الرابع عاش الواسطي (أبوعبدالله محمد بن زيد) وكان من كبار المتكلمين ويقال إنه أخذ الكلام عن أبي علي الجبائي (الأب) وإليه كان ينتمي وقيل إنه أصبح من متكلمي بغداد كما يذكر ابن النديم في «الفهرست». توفي الواسطي الذي انتقد العالم النحوي نفطويه بعد أربع سنوات من رحيل الجبائي وقيل أيضا إنه توفي سنة 306 هجرية (918 م)، ومن كتبه اعجاز القرآن، والامامة. ومن أصحابه أبوالعباس الكتاب.
وفي مطلع القرن الرابع عاش الصيمري (أبوعبدالله محمد بن عمر) ويعد من معتزلة البصرة من أهل الصيمرة، وزعم انه أخذ عن الجبائي (الأب) وإليه انتهت الرياسة بعد وفاة شيخه. ويقال إنه كان استاذ أبي بكر بن الأخشيد وعنه أيضا أخذ أبوسعيد الصيرافي علم الكلام. توفي الصيمري في سنة 315 هـ (927م) ومن كتبه نقض ابن الراوندي في الطبائع، ونقض كتاب البلخي (الكعبي) في رده على الجبائي (الأب).
وفي القرن الرابع للهجرة عاش أيضا ابن الأخشيد (أبوبكر أحمد بن علي بن معجور) وكان من كبار المعتزلة في عصره وله في الفقه عدة كتب على ما يذكر ابن النديم في «الفهرست»، منها النقض على الخالدي في الأرجاء، واختصار كتاب الجبائي (الأب) في النفي والاثبات، واختصار تفسير الطبري. توفي ابن الأخشيد في سنة 326 هـ (937م) ومن أصحابه أبوالحسن علي بن عيسى، وأبوعمران بن رباح، وأبوعبدالله الحنشي.
وفي النصف الثاني من القرن الرابع عاش الجُعل (الجعلية) وهو أبوعبدالله الحسين بن علي إبراهيم المعروف بالكاغذي. ولد في البصرة واستاذه أبوالقاسم بن سهلويه ويلقب بقشور. ويقال إن الجُعل كان على مذهب الجبائي (الابن) وإليه انتهت رئاسة أصحابه في عصره. ويقول ابن النديم عنه إنه كان متكلما وانتشرت طريقته في خراسان وتفقه على مذاهب أهل العراق. توفي الجُعل في بغداد سنة 369 هـ (979م) ومن كتبه نقض كلام الراوندي، ونقض لنقض الرازي لكلام البلخي عن الرازي.
إلى هؤلاء هناك الكثير من الأسماء اشتهرت في زمانها، وهناك من المعتزلة «لا يعرف من أمره غير ذكره» كما يقول ابن النديم (الفهرست، ص 221 - 222). فهناك مثلا الحُصيني (أبوالحسين عبدالواحد بن محمد) وهو من أصحاب الجبائي (الأب) ويقال إنه أخذ عنه وله كتب. وهناك أبواسحق إبراهيم بن محمد بن عياش ومن كتبه نقض كتاب ابن أبي بشر في ايضاح البرهان. وهناك الحسن بن أيوب (أبوعمران موسى بن رباح) وهو متكلم على مذهب الجبائي (الأب) وقرأ على ابن الأخشيد والصيمري وغيره من المتكلمين. عاصر ابن أيوب صاحب «الفهرست» ابن النديم ويقول عنه الأخير إنه انتقل في أيامه إلى مصر و«انه مازال حيا وجاوز الثمانين من عمره». وهناك ابن شهاب (أبوالطيب بن محمد بن شهاب) ويقال إنه أخذ عن البلخي (الكعبي) والخياط وغيرهما وتوفي بعد سنة 350 هـ (961م) ومن كتبه مجالس الفقهاء ومناظراتهم في 400 ورقة. وهناك أيضا ابن الخلال القاضي (أبوعمر أحمد بن محمد بن حفص الخلال البصري) ويقال إنه لقي الصيمري وابن الأخشيد وأخذ عنهما، وتولى القضاء في تكريت، وعاصر ابن النديم الذي يقول أنه «مازال حيا في أيامه» ومن كتبه: الأصول، والمتشابه.
هناك الكثير من المعتزلة «لا يعرف من أمره غير ذكره» فهؤلاء عاشوا القرن الرابع الهجري ومنهم من قطع شوطا إلى القرن الخامس لينقل الكلام إلى ما عرف برعيل «المعتزلة المتأخرة» وأهمهم وأكبرهم على الاطلاق القاضي عبدالجبار (توفي 414 هـ - 1023م) وصولا إلى آخرهم أبوالحسين البصري (توفي 436 هـ - 1044م) ويعتبر آخر الكبار.
عند هذا الحد (حد المعتزلة المتأخرة) اضمحلت المعتزلة. فحتى القاضي عبدالجبار كان يفتي على مذاهب السنة ولم يملك من الاعتزال سوى الكلام. فالنهايات لم تكن واحدة وغير موحدة فهي استمرت من خلال رموز (قضاة وشيوخ) بينما أخذت فرقها بالتلاشي واحدة بعد أخرى... إلى أن تبخرت.
نهايات المعتزلة لم تكن عنيفة ولا من طريق القوة فهي دخلت في «موات تاريخي» لأنها عجزت عن التكيف وفقدت قابليتها للحياة. حتى المنهج الذي ابتكرته في بداياتها وهو الكلام (علم الكلام) فَقَدَ وظيفته ومبرره بعد أن استوعبه الأئمة والعلماء والفقهاء وجعلوا منه واسطة لتجديد الفقه الإسلامي إلى أن استنفد دوره وغرضه. فهذ العلم بات غير ضروري كما يقول ابن خلدون في مقدمته. فصاحب المقدمة الذي توفي في القاهرة في سنة 808 هجرية (1406م) درس تاريخ «علم الكلام» ووجد أنه غير ضروري في عهده لأنه استنفد أغراضه بعد أن استُخدم من الأئمة للرد على «الملحدة والمبتدعة» فاحتاجوا «إليه حين دافعوا ونصروا» (ص 499). فالنصر كان للأئمة والهزيمة للمعتزلة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 511 - الخميس 29 يناير 2004م الموافق 06 ذي الحجة 1424هـ
عندما غابت المعتزلة غابت الحضارة الاسلامية
يجب الاطلاع على الوثيقة القادرية ومن ثم دراسة انسجام السلطة مع الفكر الاشعري وتدريسه للناس بفرض من السلطة ومنع المخالفين وحرق الكتب ...الخ (بداية الدولة الدينية وبداية انهيار الحضارة الاسلامية ).