لا أجد كلمة معبّرة عن دور العراق الكبير في الإقليم، أصدق وأدقّ من كلمة أحد رجال الدين العراقيين: «إن خير العراق يعم... وشره يعم».
لن يتعب القارئ بالبحث عن الدليل، فالعراق ظلّ منذ ثلاثين عاما يهتز فيهز الجوار، ويرسل بالشظايا والحمم والأحزان، قبل غزو 2003 بسنوات، وبعده بسنواتٍ... نرجو ألا تطول.
في سنوات الغزو، كان المخطّط الاستراتيجي الأميركي تحويل العراق إلى ساحة لاستدراج قوى الإرهاب وتصفيتها. ودخل على الخط المال الخارجي لدعم بعض القوى على أمل عودة الماضي، أو عرقلة الوضع الجديد على أقل تقدير. وتم نبش الخلافات المذهبية وإرجاعها للاقتتال بعد هجوعٍ دام عدة قرون. ثم دخلت التيارات التكفيرية على الخط، لتأجيج الصراع بين المكونات العراقية، حتى أصبح إشعال الفتنة بين السنة والشيعة هدفا معلنا تسعى لتحقيقه القوى العمياء.
كانت المنطقة على أعصابها، فالعراق أصبح البوصلة التي ستحدّد مصير المنطقة، باتجاه مزيد من العنف، أم باختيار طريق التغيير السلمي الآمن، وبوسائل ديمقراطية، وبأقل كميةٍ من الدماء.
اليوم... وبعد ظهور نتائج انتخابات المحافظات، يكون العراق قد طوى صفحة جديدة نحو المستقبل، بعد أن شارف على الحرب الأهلية، أو دخل برجليه في حقل ألغامها. وإنها لشجاعةٌ من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن يدخل الانتخابات ببرنامج «دولة القانون»، التي تَعِدُ بنقل العراق في حال تنفيذه، خطوات كبرى إلى الأمام.
لقد جرّب العراقيون الخوض في دماء بعضهم بعضا، فسُفكت دماء غزيرة بغير حق، جرّاء القتل على الهوية، وهُجّر الملايين داخل القطر العراقي وخارجه. وبعد خمسة أعوام، استيقظ الجميع على هول الكارثة، ليتساءلوا عما فعلوه بأنفسهم. وكانت إحدى المراجعات العراقية الحاسمة تشكيل ما أسموه «مجالس الصحوة»، التي خلّصت الجسم العراقي من العناصر الدخيلة التي أمعنت في سفك الدماء. وانتخابات المحافظات محطةٌ حاسمةٌ أخرى، صوّت العراقيون فيها لمستقبلهم، ولوحدتهم واستقرارهم، واستعادة تعايشهم المشترك.
أحد رجال الدين العراقيين كان في زيارةٍ للبحرين قبل عام، سألته: متى تتوقع استقرار العراق؟ فأجاب بهدوء غريب: «يحتاج إلى عدة سنوات، فالتغيير الذي حصل ليس سهلا، ولن يعود العراق إلى الماضي أبدا. كل الثورات والتغييرات الكبيرة في التاريخ احتاجت إلى سنوات طويلة حتى تهدأ، (وأسهب في ضرب أمثلةٍ من التاريخ الأميركي والفرنسي والبريطاني والروسي...)، وعليه لا تتوقع استقرارا سريعا في العراق».
المؤشرات التي بعثتها الانتخابات الأخيرة تقدّم أملا أكبر بخروج أسرع للعراق من المحنة. فالمالكي الذي أثبت أنه رجل دولة في مستوى المرحلة، يقود المبادرة لنقل العراق إلى أفق جديد. ويضحّي في سبيل ذلك بحليفه الأكبر في الائتلاف الإسلامي (الشيعي)، ويغامر باحتمال الاصطدام اليوم أو غدا، بدولة الأكراد التي أقاموها في لحظة انهيار الدولة العراقية. ويمتلك الجرأة الأدبية للاعتراف بقوله: «لقد استعجلنا بتمرير الدستور»، الذي يتخذ وسيلة لتمرير الفيدرالية، وإنصاف الأطراف من المركز، على خلفية من الغبن التاريخي الطويل.
من حسن حظ العراق أن يبدأ طريق الخلاص بعد أن كرع من كأس الحنظل، ومن سوء حظ دولٍ أخرى أن تبدأ خطواتها الأولى على طريق إقامة الحواجز النفسية بين مكوناتها الاجتماعية، مسلّحة بنظريات الفصل الطائفي البغيض، من «مساجدنا» و»مساجدكم»، و»محافظاتنا» و»محافظاتكم»، و»وزاراتنا» و»وزاراتكم»، بدل أن نستلهم أجمل درس يقدّمه العراق الجديد.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2348 - الأحد 08 فبراير 2009م الموافق 12 صفر 1430هـ