يعيش المناخ السياسي في الجمهورية الإسلامية هذه الأيام مزيدا من الاحتقان والتماحك بين أطياف الفعل السياسي جراء قيام مجلس صيانة الدستور برفض أهلية زهاء 3600 شخص من أصل 8160، أي بنسبة 44,1 في المئة، ممن تقدموا بطلبات ترشيح للانتخابات النيابية السابعة في مارس/آذار المقبل، بينهم 82 نائبا حاليا ومثقفين ورجال دين ورؤساء تحرير صحف ثبتت أهليتهم من قِبَل وزارة الثقافة بعد الاستعلام من المراجع الثلاثة في وزارة الأمن وقوى الأمن الداخلي والعدلية.
كما أن من بين المطعون في أهليتهم أكثر من 618 مرشحا كان مجلس صيانة الدستور أكّد أهليتهم في دورات نيابية سابقة و411 امرأة من أصل 827، وكان المجلس قد استند في إجرائه إلى البند الأول والثالث من المادة 28 من قانون الانتخابات والمتعلقة بالالتزام بالإسلام والوفاء للدستور، كما ذكر بعض ممن يرتبطون بأفراد المجلس أن بعض من رُفِضُوا متورطون قانونيا في دعاوى الانفصال ومن المتعاطفين مع منظمات معادية في الخارج بعد الاطلاع على حيثيات سِيَرهم الذاتية في كشوفات السلطة القضائية ووزارة الأمن.
شُكّل مجلس صيانة الدستور بعد انتصار الثورة مباشرة حينما قام خبراء القانون بتدوين مواده العامة والتفصيلية في الدستور الجديد، وقد أشارت المادة 91 من الدستور إلى أن المجلس يتكوّن من ستة فقهاء عُدول يعينهم المرشد وستة من المسلمين العارفين في مجال القانون يُستصوبون برلمانيا باقتراح من السلطة القضائية. ويتم إجراء انتخابات لنصف أعضائه كل ثلاثة أعوام، إلاّ أن دورته الرسمية هي ست سنوات، ومهمته الأساسية حسبما أشارت إليه المادة 72 مطابقة القوانين المُقرَّة والمُححَالَة من البرلمان مع الموازين الإسلامية طبقا للمادة 96 من الدستور، وتحديد عدم تعارض ما يصادق عليه البرلمان مع أحكام الإسلام يتم بغالبية الفقهاء في مجلس صيانة الدستور، أما تحديد عدم التعارض مع مواد الدستور فيتم بأكثرية جميع الأعضاء. كما أنه وفي زمن الحرب والاحتلال العسكري للبلاد تتوقف لمدة محددة انتخابات المناطق المحتلة، أو انتخابات جميع البلاد، وذلك باقتراح من رئيس الجمهورية، وموافقة ثلاثة أرباع عدد النواب، وتأييد مجلس صيانة الدستور.
كما أنه المسئول الأول عن غربلة طلبات الترشيح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمجالس المنتخبة الأخرى كمجلس خبراء القيادة وكذلك الاستفتاء العام، إلاّ أن المجلس وبُعيد انتصار الثورة كان أكثر تسامحا مع الفئات السياسية الأخرى نظرا إلى حساسية المرحلة، فسُمِح للقوميين وأعضاء حركة الحرية من الدينيين الليبراليين بالمشاركة في انتخابات مجلس خبراء القيادة الأول والذي تولى إعداد وتدوين الدستور إذ حققوا فوزا بأربعين مقعدا فيه قبل أن يُهمّشوا بعد دعوتهم الشارع الإيراني إلى مقاطعة الانتخابات.
وكان أوّل رئيس للمجلس قد عُيّن بأمر من الإمام الخميني وهو آية الله الشيخ لطف الله الصافي الكلبيكاني والذي يعتبر الآن أحد أكبر مراجع التقليد في الجمهورية الإسلامية.
وقد واجه المجلس بعد فترة من تأسيسه صعوبات قاتلة في مسيرة عمله الرقابية وخصوصا مطابقته للقوانين المُحَالَة من السلطة التشريعية مع الموازين الإسلامية حتى اضطر إلى تدوين موضوعة دستورية جديدة في لائحته الداخلية تقضي بأن ليس من الضرورة أن تتطابق القوانين التشريعية مع الموازين الإسلامية وإنما الأهم ألا تتعارض معها، وكان ذلك في حد ذاته مخرجا فقهيا ودستوريا قد خضع لدراسات مُعمقة واستشارات دينية مُكثفة مـع كبار الفقهاء في إيران.
وفي عقد الثمانينات وعندما كانت الجمهورية الإسلامية تتلاطمها الكوارث السياسية والعسكرية الخارجية منها والداخلية بعث الإمام الخميني برسالة مهمّة لأعضاء مجلس صيانة الدستور حذّرهم فيها من مؤامرة تدبرها لهم جماعة الحجّتيّة المتطرفة، وهي جماعة منحرفة تدعو إلى الإيغال في برامج دينية وسياسية غير منضبطة، وكانت تلك الرسالة منبعها معلومات استخباراتية قُدّمت للإمام عن نشاط تلك الجماعة ومحاولاتها التسلل إلى مواقع صنع القرار في المجلس.
وفي انتخابات الدورة الرابعة لمجلس خبراء القيادة (وهو المعني بمراقبة أعمال المرشد ومدى اتساقها مع مصاديقها الدستورية) العام 1998 شرّع مجلس الصيانة قانونا جديدا يقضي بأن يدخل المرشّحون لعضوية مجلس الخبراء امتحانا (تقييميا تُعتمد نتيجته رسميا) في أصول الفقه ونواحي الشرع الأخرى، وتُشرف عليه لجنة من فقهاء الحوزة العلمية في مدينة قم، ما أثار لغطا لدى شرائح العلماء التي كانت تعتمد في دخولها المجلس سابقا على تاريخها الثوري والتزكيات المرتجلة المُتحصلة لديها.
وبعد تبلور تيار الثاني من خرداد عقب انتخابات الرئاسة العام 1997 واشتداد حدة الاستقطاب الثنائي بين الإصلاحيين والمحافظين اتُهِم المجلس بأنه رأس حربة للتيار المحافظ المناوئ لقوى الإصلاح، لذلك حُشِر أعضاؤه في تلك الحرب الكلامية وبدأت حملات الشد والجذب في الصحافة والمهرجانات الخطابية بينه وبين التيار الإصلاحي.
وفي رد فعل مباشر اتخذ البرلمان الإيراني - ذو الغالبية الإصلاحية - قرارا بعدم المصادقة على اختيار اثنين من المرشحين لعضوية المجلس قدّمهم رئيس السلطة القضائية آية الله محمود الشاهرودي إذ كان من المقرر أن يختار البرلمان ثلاثة قانونيين لعضوية المجلس، لكن النواب لم يعطوا أصواتهم سوى لمرشح واحد من بين ستة مرشحين، وهي المرة الأولى التي يرفض فيها البرلمان مرشحين لعضوية مجلس الصيانة منذ انتصار الثورة الإسلامية العام 1979.
وفي الأزمة الحالية التي نشبت على إثر رفض المجلس للآلاف من المتقدمين للترشيح فُتِحَ الباب على مصراعيه لقراءة المشهد الإيراني كما هو دون رتوش، وهو ما يمكن أن يُعطينا أكثر المؤشرات موضوعية:
(1) أثبتت الأزمة الأخيرة أن المشكلة ليست في مجلس صيانة الدستور بقدر ما هي في قانون الانتخابات المعمول به في الجمهورية، فأعضاء المجلس الإثنا عشر لم يتم اختيارهم على أساس فئوي ومن ذوق سياسي واحد فقط كما يُروَّج له، بل هم إفراز طبيعي لثلاث قوى محورية في النظام الإسلامي وهي المرشد والقضاء والبرلمان، وهي الجهات الفعلية لتكوينه الاعتباري، وهو ما أشار إليه الدستور بشكل واضح، فالعارف بأعضاء المجلس يرى أن ثلاثة من أعضائه الحقوقيين المُستصوَبين تشريعيا هم من المحسوبين على تيار الإصلاح واثنين من الفقهاء الستة المعينين من قِبَل المرشد هم أيضا كذلك، وبما أن الدستور يُشير إلى أن تحديد عدم التنافي مع مواد الدستور يتم بأكثرية أعضائه، فإن كتلة تيار الإصلاح لها رأيها المؤثر في ذلك، وإن كان لايزال يُراهق لاستحصال الغالبية فيه، خصوصا إذا استحضرنا أن الأمين العام للمجلس الشيخ أحمد جنتي كان له رأي مختلف عن أقرانه في التيار المحافظ بشأن منع الآلاف من المترشحين للدورة النيابية السابعة، بل واعتبرها خطوة غير صائبة.
كما أن المرشد في اختياره الدستوري للأشخاص في المجالس المعينة عادة ما كان يُمارس الموازنة الطَيفيّة، وهو ما رأيناه في تعينه لوزير الداخلية السابق الشيخ عبد الله نوري (وهو ذو علاقة مفقودة الود معه) عضوا رئيسيا في مجمع تشخيص مصلحة النظام، وقام بتعيين الشيخ أسدالله بيّات في المُجمّع نفسه على رغم أنه محسوب أيضا على تيار الإصلاحيين بل وعلى الشيخ منتظري نفسه. كما أن انتفاء الفئوية تتأكد أكثر عندما نعلم بأن مجلس الصيانة رفض أكثر من 381 شخصا من المحسوبين على التيار المحافظ وخصوصا من أقصى اليمين وهي الجمعيات المؤتلفة الإسلامية برئاسة عسكر أولادي وبادمجيان.
وعليه يمكن التأكيد مرة أخرى أن العلّة ليست في مجلس صيانة الدستور بل في قانون الانتخابات وخصوصا المواد المتعلقة بالتقيد بالإسلام والوفاء للدستور، وهو ما أشار إليه جنتي في خطبة الجمعة في طهران الأسبوع الماضي عندما قال: «إن مجلس صيانة الدستور يواجه مشكلات جمة لذلك يجب تعديل قانون الانتخابات».
وهو التصريح الذي دفع بالبرلمان يوم الأحد الماضي إلى إقرار الصفة العاجلة جدا لقانون جديد للانتخابات يعتبر الالتزام الفعلي بالإسلام وولاية الفقيه شروطا (عُرفية)، وأن أهلية الذين كانوا قد ترشحوا لإحدى الدورات السابقة للمجلس ونالوا التأييد من مجلس الصيانة بأنها محرزة إلاّ إذا ثبت عكسها بالدليل القانوني المعتمد. وسيُضم ملحقَان إلى المادة الـ 28 من قانون الانتخابات الذي أُقر العام 2000 ، إلاّ أن القانون رفض (للأسف) من قِبَل مجلس الصيانة على رغم أنه كان متسقا مع توجيهات المرشد الخامنئي قبل أسبوعين، وعليه بات من الضروري على ُنّاع القرار في الجمهورية وأبرزهم المرشد التدخل لوضع حل لراديكالية موقف مجلس الصيانة من القانون الجديد المُقَر من قِبَل البرلمان لحلحلة الأزمة المستعرة.
كما أن القانون الانتخابي المعمول به حاليا (مطاط وقابل للتأويل بإطلاق) ويمكن الاستقواء به لتمرير مشروعات لها صفة سياسية صرفة، وكذلك لخوض معارك إعلامية حادة، وهو ما حدث فعلا لدى صحف اليمين المحافظ عندما باتت تتحدث عن أن الدواعي الموضوعية للرفض الواسع تتعلق بقضايا النعرات الطائفية، وهو ما تمّ تأكيده عندما تبيّن أن أكثر من 64,6 من مرشحي منطقة كردستان قد رفض أهليتهم، وهي من أسخن المناطق التي تفوح منها رائحة دواعي الانفصال بحكم الحالة الكردية الإقليمية.
كما أن اليمين المتطرف بات يتحدث بأن مجلة «كيان وسلام» وجبهة المشاركة وإصدار الصحف المتماثلة وملف مسلسل الاغتيالات وأزمة الحي الجامعي بطهران ومؤتمر برلين وتعديل قانون المطبوعات ومشروع التمرد المدني في مواجهة المجتمع المدني والإخلال بالخط الفاصل بين الموالين وغير الموالين ودبلوماسية السبيل الثاني والضغط من الأسفل والحاجة في الأعلى وعصابة مفبركي الأشرطة والأزمة الأخيرة هي مؤامرة منظمة لحزب المشاركة للإطاحة بالنظام الإسلامي يقودها كل من موسوي خوئينيها وبهرزو غرائبيان وعبدال
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 510 - الأربعاء 28 يناير 2004م الموافق 05 ذي الحجة 1424هـ