العمل من أجل العيش فقط كان مهنة تختص بالعبيد بصورة أساسية في حضارات عدة وعلى مرِّ القرون التي سبقت العصر الصناعي الحديث (الذي بدأ في حدود العام 1750م). والمنطق السائد حينها أن السبيل الوحيد لزيادة الإنتاج كان من خلال زيادة عدد العاملين وتطويل مدة عملهم. غير أن فهم العمل على هذا النحو تغير مع تطور الحياة الاقتصادية عندما اكتشف الانسان أن بإمكانه «زيادة الانتاجية» من دون الحاجة إلى زيادة العاملين (العبيد سابقا) ومن دون الحاجة إلى تطويل فترات عملهم. والاكتشاف جاء بعد ادخال عامل التكنولوجيا (مكننة العمل واستخدام الطاقة غير البشرية لإدارة المكنة).
بعد ادخال التكنولوجيا توجهت الدراسات الميدانية للبحث نحو ايجاد أفضل الطرق (أقلها جهدا) لتسيير عملية الانتاج، وسرعان ما اكتشف الانسان انه يستطيع ان يزيد انتاجيته أضعافا مضاعفة وان يطالب بحقه في دوام محدد وراحة في آخر الأسبوع وعطل سنوية وحقوق عمالية من دون ان تختل العملية الاقتصادية.
وعلى هذا الأساس وجدت الدول الصناعية الكبرى آنذاك أن تدريب العامل وصرف الأموال على تطوير قدراته يضاعف الانتاجية ويرجع الأموال المصروفة على التدريب لأن العامل المتدرب بصورة عالية ينتج أكثر بكثير من العامل غير المتدرب. ولذلك فإن أول نظام متكامل للتدريب المهني ظهر في ألمانيا في منتصف القرن التاسع عشر، ومازالت ألمانيا تتصدر الدول في نظام التدريب المهني والفني الذي «يقدس» مفهوم زيادة الانتاجية.
في العصر الصناعي الذي بدأ قرابة العام 1750م واستمر حتى منتصف وأواخر القرن العشرين (استمر قرابة 200 - 250 سنة) كانت المعرفة (الخبرة العملية) تكتسب من أجل تطوير العمل وزيادة انتاجية المصنع. أما في عصر ما بعد الصناعي (العصر المعلوماتي) الحالي فإن المعرفة تستخدم من أجل تطوير مزيد من المعرفة.
وتلعب تكنولوجيا المعلومات دورا محوريا في زيادة العمل المعرفي الذي يضاعف الانتاجية إلى مستويات أكبر بكثير مما كان عليه الحال في العصر الصناعي. ولذلك، فإذا كانت السيارة يستغرق صنعها مدة طويلة في الماضي فإن بامكان المرء ان يطلب السيارة التي يود شراءها ويضيف عليها ما يود اضافته من خيارات توفرها الشركة ويقدم طلبه الكترونيا (ان شاء ذلك)، وما هي إلا فترة وجيزة وإذا بأجهزة الكمبيوتر تعمل فيما بينها لتطلب الاجزاء المكونة للسيارة وتبرمجها بسرعة فائقة. تتحرك بعد ذلك دورة انتاجية سريعة تتطلب عددا أقل بعشر مرات مما كانت تتطلبه عملية صناعة السيارة في الماضي... وهذا معنى أن النشاط المعرفي هو الذي يقود الاقتصاد المتطور في عصرنا الحاضر.
ولكي يتمكن أي بلد من اللحاق بالاقتصاد المعرفي فإن عليه أن يستثمر كثيرا في تكوين الانسان المعرفي المتدرب بصورة فائقة والذي يتمكن من تطبيق ما تعلمه في الحياة العملية من خلال تكنولوجيا متطورة تقودها نظم معلومات مبرمجة على أسس فائقة التنظيم ومعتمدة على خبرات الانسانية في كل مجال من مجالات الحياة المتعددة.
وما نحن بحاجة اليه هو فهم متطلبات تكوين «الانسان المعرفي» ذلك الانسان الذي حصل على تعليم وتدريب متطور في قطاع من قطاعات الاقتصاد المهمة والذي يعرف كيف يستخدم نظم المعلومات لزيادة الانتاجية وزيادة المردودات الاقتصادية التي توفر له مستوى معيشة مرتفعا من دون الاخلال بأي من حقوقه
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 510 - الأربعاء 28 يناير 2004م الموافق 05 ذي الحجة 1424هـ