العدد 508 - الإثنين 26 يناير 2004م الموافق 03 ذي الحجة 1424هـ

العراق واستنساخ «التجربة اللبنانية»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هناك اتجاهات في العراق تطالب باستنساخ «التجربة اللبنانية» وإعادة إنتاجها في إطار «ديمقراطية المحاصصة». وتأتي هذه المطالبة ردا على دعوات اجراء انتخابات فورية ومباشرة في العراق لاختيار سلطة سياسية تقود الدولة بعد مرحلة التحرير واستعادة السيادة.

المطالبة هي أقرب إلى المناكفة السياسية وليست نتاج وعي تاريخي لواقع العراق وتركيبته الديموغرافية (السكانية) وبيئته الطبيعية - الاجتماعية. فلبنان كدولة وجغرافيا يختلف في تركيبته الاجتماعية وتوازنه الديموغرافي عن العراق وبالتالي فإن استنساخ تجربته سيؤدي إلى إنهاء دولة بلاد الرافدين وتوزعها على دويلات سياسية تهدد وحدتها التاريخية.

استنساخ التجربة اللبنانية في العراق يفيد للاطلاع عليها الا أنها غير قادرة على حل أزمة الدولة. فالدولة اللبنانية مرنة ووجدت أصلا لادارة التوازن الطائفي (الأقلي) ضمن صيغة توافقية - نسبية. فلبنان دولة أقليات ولا وجود فيه لغالبية طاغية. لذلك اقتضت الضرورة الجغرافية - التاريخية ان تكون الدولة في جوهرها مرنة في التعاطي مع تعقيدات «الاجتماع اللبناني».

الدولة في العراق اختلفت وظائفها السياسية عن تلك في لبنان، وبالتالي فإن «الصيغة اللبنانية» قد تفيد العراق كتجربة ولكنها في النهاية ليست حلا. فالدولة العراقية تقليديا هي دولة تداخلية ولا تقف على هامش المجتمع ولا يعرف عنها أنها تدير توازناته من دون ان يكون لها موقعها الخاص في اطار منظومة العلاقات الداخلية.

هذا الاختلاف بين دور الدولتين في لبنان والعراق يعود إلى سلسلة أسباب لها صلة بالجغرافيا والاجتماع والتاريخ والموقع. فالجغرافيا العراقية تختلف عن جغرافية لبنان، كذلك تكوين العراق البيئي بين مرتفعات وسهوب وصحراء. والاجتماع العراقي يختلف عن الاجتماع اللبناني. فالعراق، كما يذكر الباحث علي الوردي في كتابه عن «شخصية العراق»، يتعرض دائما لموجات (هجرات) سكانية من دول الجوار يغلب عليها طابع البداوة الأمر الذي جعل من بنيته الاجتماعية بنية غير مستقرة سكانيا. فهذه الهجرات من دول الجوار أضافت على العراق سلسلة تلوينات لكنها لم تخرج عن سياق تكوينه السكاني (الديموغرافي) في بلد يتألف قوميا من عرب وأكراد وتركمان ومجموعات اثنية دينية كالاشوريين والكلدان مثلا. فالعراق إلى هذا التركيب السكاني يتألف ايضا من ديانتين ومذهبين إلى ديانات ومذاهب صغيرة اخرى. إلا ان التوزيع النسبي بينها ليس متقاربا فهناك اكثرية مسلمة واقلية مسيحية وهناك اكثرية عربية قياسا بالاقليات الاقوامية الاخرى.

وجود أكثرية الى جانب أقليات كبيرة وصغيرة يمنع توزيع الحصص وفق صيغة توافقية نسبية كما هو حاصل في لبنان. وهذا المنع لا يعني تعطيل التوازن وليس بالضرورة ان تكون «الفيدرالية الجديدة» أو فيدرالية الطوائف والاقوام في الددستور العراقي البديل هي النموذج الأصلح والأخذ بها لا يعني ان العراق بات على قاب قوسين من حل مشكلة الدولة.

النظام التوافقي (الحصص) يتطلب مجموعة شروط غير موجودة في العراق، لأن تركيبة بلاد الرافدين تعتمد أساسا على النهرين (دجلة والفرات) الأمر الذي يفرض منطقيا المزيد من الوحدة (المركزية) لضمان ربط أجزاء الدولة التي تنساب مع انسياب المياه من المرتفعات إلى المصب في شط العرب.

العراق دولة مركزية تاريخيا. والسبب في ذلك أن وحدة البلاد لا تتحقق الا من خلال نظام مركزي يضبط التنوع ضمن وحدة ليست بالضرورة استبدادية على سيرة أو صورة النظام السابق. فالمركزية لا تعني القهر بل هي صيغة سياسية فرضتها ظروف الجغرافيا والتاريخ... وربما تكون هي النظام المناسب (وليس بالضرورة الأفضل) بعد اجراء تعديلات عليها للدولة الجديدة. فالعراق ليس متناثرا بين أقليات متوازنة كذلك تسوده غالبية عربية نسبية على المجموعات القومية الاخرى، وهناك اكثرية مطلقة مسلمة قياسا بالمجموعات الدينية الاخرى.

وهذا يعني ان هويته التاريخية واضحة وليست بحاجة إلى استفتاء لتأكيدها.

وضوح هوية العراق العربية - المسلمة كواقع تاريخي - اجتماعي لا يلغي وجود الفئات الأخرى وحقها في التعايش والمشاركة وحتى قيادة الدولة لبناء وطن واحد من دون تمييز او تفرقة.

وايضا وضوح الهوية يعطل امكانات نمو تلك الاتجاهات السياسية التي تطالب باستنساخ «التجربة اللبنانية» من دون وعي لظروف الاختلاف في المكان والزمان والاجتماع

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 508 - الإثنين 26 يناير 2004م الموافق 03 ذي الحجة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً