عادة تكون الانتخابات وسيلة واقعية وذكية لحل المشكلات بين الناس وأبناء المجتمع الواحد، واللجوء الى صناديق الاقتراع خطوة يراد منها الاحتكام الى اختيارات الناس وانتخاب من يريدونه لتمثيلهم في البرلمان. فالبرلمان في النهاية هو تسوية تاريخية يعاد إنتاجها دوريا حتى لا تحتقن النفوس وتنفجر.
هذه العادة تحولت في بعض المجتمعات الى تقليد سياسي يصعب تجاوزه، وبسبب تكرار العادة تحوّلت الانتخابات الى سلوك مشترك تقبل به كل الاتجاهات، لأنه الأفضل على رغم الكثير من سلبياته الإجرائية التي تحصل خلال فترة التطبيق.
هذه العادة كما يبدو ليست مقبولة عند البعض في العراق حتى الآن. ويمكن فهم عدم القبول على أكثر من صعيد. فهناك فئات تتخوف من أن تكون الانتخابات واسطة لتسلط الأكثرية على الأقلية. وهناك فئات متخوفة من نجاح الغالبية في فرض وجودها على حساب أقليات لا تستطيع المنافسة الحرة. وهناك فئات ترى في الانتخابات خطوة سابقة لأوانها وتطالب بتأجيلها حتى يتم البحث وثم البت في الكثير من الإجراءات التنظيمية. وهناك من يريد الانتخابات قبل خروج الاحتلال حتى لا تعم الفوضى في حال أعلن الانسحاب فجأة. وهناك من يريدها بعد انسحاب المحتل حتى يتمتع المواطن بحرية أوسع في الاختيار.
هناك، وهناك الكثير من الآراء المتضاربة التي صدرت تباعا في الأسبوعين الماضيين ردا على مطالبة المرجع الديني السيدعلي السيستاني بضرورة إجراء الانتخابات وحق الشعب العراقي في اختيار مجلسه التمثيلي.
في العراق إذا المسألة مختلفة، ويكاد مطلب الانتخابات يتحول الى مشكلة بينما هو أساسا وجد من أجل احتواء المشكلات.
والسؤال: ما ذرائع المعارضين لإجراء انتخابات حرة وفورية؟
يمكن تركيز الاعتراضات في الملاحظات الآتية: وجود ثلاثة ملايين عراقي في الخارج لم يتم البت في أمر عودتهم أو حقوقهم وواجباتهم، وجود فئات من العراقيين جردت في أيام النظام السابق من جنسيتها لاعتبارات عنصرية وشوفينية كثيرة، عدم وجود إحصاء رسمي جديد يحدد عدد العراقيين ومراكز عملهم وإقامتهم، وجود فوضى سياسية لا تسمح للمواطن بالتفكير مليا في اختيار الشخص المناسب، انعدام الأمن وهذا يعطل إمكانات وصول المنتخبين الى مراكز الاقتراع، احتمال تدخل الاحتلال في عمليات الانتخاب والتأثير على المترشحين أو المقترعين، رفض اعتماد البطاقة التموينية أساسا للمواطنة في اعتبار أن النظام السابق حرم الكثير من العراقيين من الحصول عليها، عدم وضوح آلية للاقتراح، عدم وضوح النظام الانتخابي الذي يحدد التقسيمات الإدارية، وأخيرا لابد من الاتفاق على الحصص وتوزيع المقاعد بحسب المناطق أو المحافظات أو الطوائف والقوميات.
هناك إذا الكثير من الاعتراضات المتبادلة التي تركزت على ذرائع إجرائية للمطالبة بتأجيل الانتخابات. فهذه الاعتراضات تنصب على ملاحظات تنظيمية تميل نحو التأجيل حتى لا يدخل الشك في نفوس المواطنين في وقت تحاول بقايا الدولة تجميع نفسها والعودة الى الواجهة السياسية كبديل شرعي عن إدارة الاحتلال في حال قرر الانسحاب.
قد تكون الملاحظات شرعية والاعتراضات صحيحة، إلا أن هناك جوانب خفية لا تقال وهي في النهاية تشكل القاسم المشترك لكل الفئات التي تقع في المعسكر المطالب بتأجيل الانتخابات. وأساس القاسم المشترك هو عدم وجود تقليد الاختيار الديمقراطي في بلد عاش في ظل الديكتاتورية قرابة عقود ثلاثة. فالتقليد يحتاج الى تكرار العادة كما يقول ابن خلدون في مقدمته. وحين لا توجد عادات لا توجد تقاليد. وأبرز تلك التقاليد احترام الأكثرية لرأي الأقلية واعتراف الأقلية بالغالبية وحقها في قيادة الإدارة والتنظيم.
المسألة إذا تتجاوز كل ما قيل عن عقبات إجرائية، فالأساس في الاعتراضات هو وجود مخاوف من الأقليات (على أنواعها) من طغيان الأكثرية وبالتالي فإن جوهر الخلافات هو ميل الأقليات الى تفضيل «ديمقراطية المحاصصة» على الطريقة اللبنانية لضمان حصتها في الدولة الجديدة وفق نظام تراتبي نسبي تتمثل فيه كل القوى ولا تستثنى منه أي شريحة عراقية.
لاشك في أن مثل هذه المخاوف مفتعلة وعلى الغالبية العراقية (الأكثرية النسبية) أن ترد عليها لتزرع الطمأنينة في مجتمع عانى سلسلة عقود من الخوف والشكوك المتبادلة.
نزع المخاوف مهمة سياسية عاجلة مطلوبة أولا من الغالبية وإلا تحولت الانتخابات في العراق من وسيلة لاحتواء المشكلات الى واسطة لنشر الخلافات الأهلية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 507 - الأحد 25 يناير 2004م الموافق 02 ذي الحجة 1424هـ