ما إن أخذت إيران تضمد جروحها من الزلزال الطبيعي الذي هز مدينة «بم» وهدد مدنا أخرى وقضى على عشرات الآلاف من السكان، حتى وجدت نفسها تعيش تحت وقع رجة أخرى، ولكنها هذه المرة ليست جيولوجية وإنما سياسية. لقد قرر مجلس صيانة الدستور حرمان آلاف من الإيرانيين من حق الترشح للانتخابات البرلمانية المقبلة. وبما أنه يوجد من بين هؤلاء الذين رفضت ترشحاتهم 877 ينتسبون إلى التيار الإصلاحي، بمن فيهم ثمانون عضوا بمجلس الشورى، فقد أحدث القرار انقساما حادا داخل الطبقة السياسية، وأشاع جوا من الاحتقان والخوف من حصول مواجهة شاملة وعنيفة بين الإصلاحيين والمحافظين.
فمن جهة صدرت عن الرئيس خاتمي وأنصاره من أعضاء الحكومة وجميع حكام المناطق السبعة والعشرين ونواب مجلس الشورى تهديدات مختلفة بما فيها تقديم استقالات ومقاطعة الانتخابات المقبلة. وفي المقابل أبدى المحافظون تشددا وعبروا بدورهم عن استعدادهم لاستكمال خطتهم والذهاب إلى آخر الطريق من أجل إحكام القبضة على خصومهم وإبعادهم عن السلطة، واستعادة الجهازين التنفيذي والتشريعي اللذين خسراهما خلال الدورتين السابقتين.
بقطع النظر عن أهمية الجهود المبذولة لإطفاء الحريق، والصيغة التي ستعتمد لتجاوز المواجهة، فإن المؤشرات تدل على أن الصراع بين الطرفين سيستمر بأشكال مختلفة، لأنه ليس مجرد صراع بين طرفين يتنازعان السلطة، ولكنه خلاف جوهري بين نمطين في التفكير وتصور طبيعة المجتمع والدولة. كما أن الأدوات التي لجأ إليها المحافظون للتضييق على خصومهم تبرز إلى حد بعيد المأزق الداخلي للنظام السياسي الإيراني الذي أصبح أكثر من أي وقت مضى غير متجانس سواء مع التغيرات العميقة التي مر بها المجتمع الإيراني، أو التحديات الخارجية التي تضغط بقوة، والتي لم يعد من الحكمة أو المصلحة تجاهلها وعدم أخذها في الاعتبار.
عندما صوت الإيرانيون قبل ثماني سنوات بنسبة سبعين في المئة لصالح المثقف الإصلاحي (محمد خاتمي)، كان ذلك بمثابة الرسالة القوية الموجهة من الشعب إلى طبقته السياسية. لقد شعرت الجماهير بالتعب وأعلنت أنها تريد التغيير: التغيير في الخطاب، والتغيير في أسلوب إدارة الشأن العام، والتغيير في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وقد تعززت تلك الرغبة الجماهيرية بحصول الإصلاحيين على الغالبية داخل مجلس الشورى، وكذلك على صعيد البلديات.
أمام هذا الانقلاب السياسي في موازين القوى، قرر المحافظون الاعتراف بالهزيمة، وعدم التمرد على «قواعد اللعبة» لكنهم أعدوا في المقابل خطة لاستعادة نفوذهم الذي كان واسعا جدا قبل ظهور الإصلاحيين. فهم لم يراهنوا فقط على فشل خصومهم الذين لم يكونوا يملكون برنامجا اقتصاديا وسياسيا قويا وقادرا على تغيير الأوضاع، وإنما عمل المحافظون على وضع جميع العراقيل الظاهرة والباطنة أمام الرئيس خاتمي وحلفائه. وقد استعانوا لتحقيق ذلك بالمؤسسات القوية التي لاتزال تحت نفوذهم مثل القضاء، ومجلس الخبراء والأجهزة الأمنية الموازية لنشاطات وزارة الداخلية.
في هذا السياق، تعمدوا تطويق الإصلاحيين وضرب القواعد التي يرتكزون عليها. من تلك القواعد الصحافة المكتوبة. فمن أهم المكاسب التي تحققت في عهد الرئيس خاتمي ظهور عشرات العناوين الصحافية المستقلة. وهي ظاهرة صحية وفرت فرصة للتعبير الحر، وذلك لأول مرة منذ أواسط الثمانينات عندما حسمت المواجهة التي دارت بين أنصار الإمام الخميني وخصومهم من مختلف تيارات المعارضة. ونظرا إلى التوجه النقدي الذي ميز خطاب الكثير من المنابر الإعلامية الجديدة، فقد حرك المحافظون الآلة القضائية التي نظمت عددا من محاكمات الرأي لعدد من الصحافيين الذين وجهت إليهم تهما خطيرة، بما في ذلك التآمر على أمن الدولة والخروج عن ثوابت الإسلام.
لقد أضرت تلك المحاكمات بسمعة النظام الإيراني، وكشفت المخاطر التي لاتزال تهدد حرية الرأي والتعبير، لكنها في الآن نفسه أعطت للإصلاحيين هالة شعبية ودولية، وجعلت الكثير منهم يحتلون مكانة الرموز والشهداء المدافعين عن الحرية والفكر في إيران والعالم الإسلامي. وقد دفع ذلك المحافظين نحو تخفيف الضغط على الصحافة والصحافيين.
في التوجه نفسه، انتقل المحافظون إلى جبهة أخرى هي الجبهة الطلابية والشبابية. لقد أدركوا «خطورة» خروج الجامعات من تحت عباءاتهم، مستحضرين ما حصل أيام الشاه، إذ كان للطلاب والمثقفين دور محوري في التعبئة الثورية ضد النظام الشاهنشاهي. وهكذا عاشت الساحات الجامعية مواجهات عنيفة بين الطلاب المتمسكين بالتغيير من جهة وبني زملائهم المحافظين وقوات الأمن والجيش من جهة أخرى. ونظرا إلى الدلالات الرمزية لتلك المواجهات فقد حاولت الإدارة الأميركية استغلالها لممارسة مزيد من الضغوط على إيران.
في هذا السياق تتنزل المعركة الأخيرة التي قرر المحافظون شنها ضد خصومهم. إنهم يريدون هذه المرة إخراجهم من البرلمان بتقليص عدد مرشحيهم، ما يفسح لهم المجال بضمان تحقيق غالبية لهم خلال الانتخابات التشريعية المقبلة. وبذلك يرتكب المحافظون خطأ استراتيجيا جديدا، فهم عندما شنوا حربا على المثقفين وعلى الصحافة المعارضة لهم وضعوا أنفسهم في خانة المناهضين لحرية الرأي والتعبير، وأشعروا الرأي المحلي والدولي بكونهم يخشون من النقد ويرفضون أن تصبح الصحافة سلطة فاعلة داخل إيران. ولما استهدفوا الطلاب والشباب فقد وضعوا أنفسهم في سياق مضاد للمستقبل وحركة التاريخ، لأن كل قوة سياسية تصطدم برغبة الشباب في التغيير تثبت أنها أصبحت جزءا من الماضي وأنها خسرت معركة المستقبل. ولما قرروا هذه المرة التصدي لحق معارضيهم في الترشح للانتخابات فإنهم قد أشعروا الجميع بخوفهم من المنافسة الشعبية واعتراضهم على مبدأ الصراع الديمقراطي. وهم بذلك يعرّضون النظام السياسي الإيراني برمته للخطر، لأن هذا النظام لم ينجح في معركة البقاء إلا بفضل السماح بهامش لا بأس به من التنوع والتنافس داخل الإطار الرسمي الذي ضبطت حدوده منذ البداية لإقصاء من اتهموا بالخروج على النظام. وبما أن الإصلاحيين هم في الحقيقة إفراز من إفرازات التحولات الجذرية التي تراكمت من داخل الإطار نفسه، فإن محاولات إقصائهم وإلحاقهم ببقية المعارضين الآخرين، تشكل تقويضا لقواعد اللعبة وضربة خطيرة لإحدى الأسس التي ارتكز عليها النظام السياسي الإيراني.
مرة أخرى يتأكد أن ما تمر به إيران ليس مجرد أزمة سياسية ظرفية. إنه ترجمة لمأزق أكثر عمقا وخطورة. إنه فصل جديد من معركة ستحدد مستقبل النظام الإيراني برمته. فالداء الذي بقي يهدد الثورة الإيرانية بالفناء منذ السنوات الأولى لنجاحها هو «الشمولية الدينية». لم يكن الخطر في أن يكون الإسلام مرجعية الثورة والدولة والمجتمع، بعد أن كان المحرض ضد الدكتاتورية السابقة، وإنما الخطر في فرض رؤية أحادية للدين وتحويلها إلى أيديولوجية حاكمة وقامعة للنخب والجماهير. وعلى رغم الانتقادات التي وجهت للرئيس محمد خاتمي، فإن التاريخ سيسجل له إصراره ومسعاه إلى إقناع الإيرانيين بأن خدمة الإسلام تكون عندما: «نقول إن الدين والحريات متلازمان، لأنه على غير هذا الوجه سيتحول التدين إلى سلاح يعوق تقدم البشرية»
العدد 506 - السبت 24 يناير 2004م الموافق 01 ذي الحجة 1424هـ