إن التجاوزات الإدارية والمالية الخطيرة داخل الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية قد وفرت ليس الأدلة الدامغة على سوء الإدارة، وانعدام الكفاءة والمسئولية، وغياب المساءلة والشفافية، ومدى الهبوط الأخلاقي فقط، بل جاءت كذلك بالأدلة الجنائية التي قد تبرر إقامة دعوى قضائية في حق الهيئة و«أبطالها» على المستويات الإدارية العليا. وهنا يأتي دور الاتحاد العام لعمال البحرين بصفته المؤسسة المدنية المعنية بالقيام بتقييم قانوني لتلك الأدلة من أجل تقرير ما إذا كانت تبرر إقامة الدعوى.
إن خطوة كهذه من جانب الاتحاد العام لعمال البحرين لابد أن تساعد كثيرا على ترسيخ الدور المطلوب من المؤسسات المدنية بصفتها القانونية على طريق المشاركة الفاعلة والمؤثرة في مسيرة البحرين الديمقراطية نحو مجتمع حر وعادل يحكمه القانون والمثل العليا. ويبدو حتى الآن أن المسئولين عن إدارة الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية قاموا بتبديد أموال العمال التقاعدية التي ائتمنوا عليها ضد القانون ما تسبب في وضع خطير قد يقود إلى كارثة اجتماعية حقيقية إذا لم تتم إعادة هيكلة الهيئة خارج سيطرة الحكومة. ويبدو كذلك أن العامل وصاحب العمل هما اللذان سيدفعان ثمن هذه التجاوزات القانونية، لأن الوضع المالي للهيئة لن يتحسن اكتواريا إلا بزيادة نسب الاشتراكات التقاعدية.
لذلك، فإن أية مبادرة قانونية قد يأخذ بزمامها الاتحاد العمالي - وهو صاحب القضية بصفته التمثيلية لعمال البحرين - ستكون مبررة حتما لا بل ضرورية إذا ما تم الأخذ في الاعتبار بحتمية إيجاد السابقة لفعل مدني قانوني في مواجهة بؤر الفساد الإداري والمالي في الهيئات العامة. لقد حان الوقت لأن تخطو المؤسسات المدنية بقوة على طريق الفعل الهادف وألا تقف مكتوفة الأيدي تنتظر بسلبية مجيء الإصلاح عن طريق الغير من دون العمل على تكثيف الضغوط القانونية للحفاظ على مصالحها المشروعة. فالتجربة الديمقراطية لن تنجح إلا إذا تفاعل المجتمع المدني ومؤسساته بشكل إيجابي وموضوعي ومنضبط وقانوني مع قضاياه للخروج من هذا التراث الثقيل من الاتكالية والسلبية والقدرية.
وقد تمثل تلك المبادرة إذا ما أخذ بها الاتحاد العام لعمال البحرين امتحانا قاسيا للقضاء الذي لا يراه الكثير من المواطنين سلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية، كما ستعطي لهذا القضاء فرصة تاريخية من أجل تحسين صورته داخل وخارج البلاد. فالعدل أساس الملك، ولن يتحقق العدل إلا باستقلال القضاء وترفعه ونزاهته.
وستمثل تلك المبادرة كذلك خطوة مهمة في ترسيخ الحقيقة بأن الإدارة المؤهلة لنجاح أي مشروع وطني أو هيئة عامة لابد أن تقوم على الرؤية والتخطيط والخبرة والمبادرة والكفاءة والحس بالمسئولية والانضباط والمساءلة والشفافية. لقد عقدت الكثير من الدورات والندوات في مبادئ الإدارة وتطبيقها جزءا من برامج تدريب الكوادر الإدارية البحرينية على مدى عقود من الزمن، والنتيجة لن تكون أفضل مما رأينا من عدم وجود حتى أسس الإدارة السليمة من هيكل إداري ولوائح ونظم إدارية ومالية ورقابية داخل الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية، لأن الخلل ليس في غياب التدريب الإداري ولكن في تكريس الممارسة الإدارية التي قامت ولاتزال على ثقافة «الدكاكين» و«النواخذة».
وقد كتب الإمام علي بن أبي طالب إلى المنذر بن الجارود العبدي الذي كان خان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله: «... من كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية».
كاتب بحريني
العدد 505 - الجمعة 23 يناير 2004م الموافق 30 ذي القعدة 1424هـ