تربطنا بالموضوع الكردي روابط قوية، فالاكراد جزء اساسي من التكوين التاريخي والبشري لمنطقتنا، التي تشارك فيها العرب والاكراد والاتراك والايرانيون الى جانب جماعات قومية أخرى، رسمت الملامح الحضارية والثقافية للمنطقة، وكثيرا ما تعاونت، وتشاركت في الدفاع عنها، على رغم الصراعات التي خاضتها فيما بينها.
كما يربطنا بالاكراد، احساس بالمظالم التي اصابتهم، سواء كانت بفعل التناقضات الداخلية التي شهدتها المنطقة، او نتيجة التدخلات الخارجية، التي لا يختلف اثنان في انها غالبا ما كانت فجة ودموية، وكانت دائما ذات اهداف استعمارية واضحة.
وتربطنا بالاكراد في سورية رابطة وطنية، يتشارك فيها السوريون جميعا من عرب وأكراد وشركس وأرمن وتركمان، جعلوا من انتمائهم لسورية خيارهم النهائي، وهم يسعون جميعا من اجل الخروج من التركات الثقيلة، التي اثقلت ظهورهم، والمضي نحو تحسين حياتهم ومستقبلهم في دولة اساسها الحق والقانون، دولة ترتفع فيها المظالم، ويتساوى فيها المواطنون في حقوقهم وفي واجباتهم من دون تمييز، ويجد أمرا كهذا تعبيرا واضحا له في مشاركة مواطنين سوريين من اصول كردية في نشاط لجان احياء المجتمع المدني، التي تطالب باستعادة المواطنية بما تعنيه من مشاركة في الحياة العامة، تبدأ من الاصلاح السياسي، وتمتد منه الى بقية المجالات، لتشمل الاصلاح الاقتصادي والاداري والقضائي وغيرها.
غير ان بعض الاكراد في سورية، لهم توجهات أخرى، بعضها قريب الى توجهات الاكراد في العراق، وتظهر هذه التوجهات في مواقف وسياسات بعض الاحزاب الكردية في سورية مثل حالتها لدى الجماعات والاحزاب الكردية في العراق، التي قد لا يتوافق كل اكراد العراق على توجهاتها في خلق وتكريس كيان كردي متمايز في شمال العراق عبر موضوع الفيدرالية القومية، والذي قد يؤسس لاحقا لقيام دولة كردية في شمال العراق، ثم يمتد منها الى دول الجوار وخصوصا تركيا وايران، وربما الى اجزاء من سورية.
وتعيدنا هذه الاحتمالات الى التدقيق في الموضوع الكردي برمته انطلاقا من بؤرته العراقية الساخنة، والتي يمكن القول انها كانت الاشد سخونة في تاريخ الموضوع الكردي على مدار الخمسين عاما الماضية.
لقد جربت القيادة الكردية في مسيرتها الطويلة بزعامة الملا مصطفى برزاني اشكالا متعددة من العمل في الموضوع الكردي، فعاشت تجارب العمل السياسي، وانخرطت في اعمال مسلحة، وأجرت اتفاقات، كان هدفها حل الموضوع الكردي في العراق، واستعانت في سبيل هذا الهدف بعلاقات وصلات مع جماعات سياسية محلية واقليمية، وتجاوزتها الى علاقات مع دول اقليمية مستغلة التناقضات القائمة بين هذه الدول المحكومة بمعطيات الحرب الباردة السابقة بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الأميركية، ولم توفر فرصة الدخول في علاقات مع الطرفين الآخيرين، لكن النتيجة لم توصلها الى حل للموضوع الكردي، يتناسب واهدافها وطموحاتها.
وبعد وفاة البرزاني، سار على ذات الدرب، تلميذه النجيب جلال طالباني، وابنه مسعود برزاني، وقد انشقت الحركة الكردية بينهما الى الاتحاد الوطني الديمقراطي الذي يتزعمه جلال، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود، ولم تتغير النتائج، لكن المعطيات المحلية والاقليمية والدولية، تغيرت كثيرا من حولهما.
واذا كان من الصحيح، ان النظام القوي في بغداد سقط نهائيا، وان القادة الاكراد صاروا اعضاء في مجلس الحكم الانتقالي الذي يدير العراق تحت الاحتلال، يمثل تطورا ايجابيا، يحيط بالموضوع الكردي في العراق، يضاف الى تطور مماثل، يجسده وجود كيان كردي في شمال العراق، يتشارك الحزبان في ادارته، فان في التطورات الاقليمية والدولية ما هو سلبي في تأثيره على الموضوع الكردي.
لقد اتجهت ايران وتركية وسورية، التي تحيط بالعراق وذات الصلة المباشرة بالموضوع الكردي منذ العام 1998 الى صوغ موقف موحد في هذا الجانب في تأكيدها الحفاظ على وحدة العراق ومنع تقسيمه، وقد كررت تلك الدول موقفها في السنوات التالية، وخصوصا بعد سقوط النظام العراقي واحتلال العراق في ربيع العام الماضي، وقد انضمت الى هذا الموقف دول اخرى، لم تكن تبدي اهتمامها بالموضوع، وكان التعبير الواضح عن هذا الموقف ما اعلنه مؤتمر وزراء خارجية دول الجوار العراقي بدمشق في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بمعارضته المساس بوحدة العراق في اشارة واضحة الى الموضوع الكردي في العراق.
وبالتأكيد، فان المعارضة الاقليمية القوية، تتناغم مع معارضة داخلية عراقية، ترفع شعار معارضة الفيدرالية التي يطالب بها الاكراد على اساس قومي، وكان التعبير الابرز عن المعارضة، شعارات ظهرت في تظاهرات حاشدة في الكثير من مدن وسط العراق وجنوبه، فيما اظهر عدد من اعضاء مجلس الحكم معارضته لموضوع الفيدرالية القومية، اما بالقول ان الفيدرالية المطلوبة هي فيدرالية ادارية وجغرافية، او ان الموضوع مؤجل لوقت لاحق.
وتجاوز الموقفان الداخلي والاقليمي حول الموضوع الكردي في العراق، يوصل الى الموقف الأميركي الذي يبدو ان الاكراد يراهنون عليه اساسا، وهي مراهنة ذات معنى في استنادها الى معطيات احاطت بالسياسة الأميركية في العراق خلال العام الماضي، كان من بينها تحول القيادات الكردية الى دعم واسناد الموقف الأميركي في قراره اسقاط النظام العراقي، وعندما بدأت الحرب على العراق، وقفت قوات طالباني وبرزاني الى جانب قوات الغزو، ثم انضم الزعيمان الكرديان مع آخرين الى مجلس الحكم الانتقالي الذي عينه الاحتلال، ولعل الاهم فيما احاط بعلاقة القيادة الكردية بالقوات الأميركية بالعراق، هو توفير مستوى عال من الأمان والاستقرار للأميركيين في شمال العراق من خلال قوات البشمركة الكردية، ما جعل الخسائر الأميركية في هذه المنطقة محدودة للغاية.
لكن الوقائع تبين ان الموقف الأميركي، قد لا يسير متوافقا مع رغبات القيادة الكردية، وهو امر لا ينطبق على التاريخ فقط، إذ تخلى الأميركيون عن الأكراد لشاه ايران في السبعينات، ثم خذلوهم عقب حرب الخليج الثانية العام 1991، عندما تركوهم يواجهون قوات النظام السابق ردا على تمديهم ضده. وينطبق الامر على الحاضر، عندما طلب الأميركيون من تركيا ارسال قوات الى شمال العراق خلافا لرغبة الاكراد، لولا رفض الاتراك الاستجابة للطلب الأميركي لدخول عشرة آلاف جندي تركي الى المنطقة، وقد تحركت القوات الأميركية لاحكام قبضتها على كركوك بعدما شهدته المدينة من صراعات بدأت مع محاولة الاكراد السيطرة عليها ما هدد باندلاع صراع دموي في المدينة، يمكن ان تكون له انعكاسات في انحاء العراق الاخرى.
ولاشك، ان تداعيات الموضوع الكردي العراقية والاقليمية، يمكن ان تشكل اساسا لموقف أميركي، يجعل الولايات المتحدة غير راغبة في العمل بما ينسجم وطموحات الاكراد، بل وربما معارضتها فيما كانت المصلحة الأميركية تتطلب ذلك، لقد باعت الولايات المتحدة دولا حليفة بسبب مصالحها، وتخلت عن جماعات واحزاب واشخاص خدموا سياسة واشنطن بجدية وقوة في لحظة بدا ان الحفاظ على علاقتها معهم لا يتوافق مع المصلحة الأميركية، او انهم يؤثرون على تلك المصالح بصورة سلبية، وبهذا المعنى لن تتأخر واشنطن في التخلي عن الاكراد وربما «خيانتهم»، اذا رأت ان مصالحها مع غيرهم، وهذا بعض مما يفسر الخوف على الاكراد
العدد 505 - الجمعة 23 يناير 2004م الموافق 30 ذي القعدة 1424هـ