كثيرون هم الذين وقفوا أمام فضيحة «تقاعد وتأمينات غيت». بعض كفكف دموعه حسرة على أموال ذهبت، وبعض راح يلملم بقايا حطام جرة الافلاس التي انكسرت، وبعض راح يتلو نظرية المؤامرة، وآخرون آثروا الصمت خوفا من رضا «الضّرة الجديدة» أو ان يكون مكسبا لها.
لا يوجد شيء أشد حلكة من ضياع أموال الناس غريبة في دهاليز السياسة وتفاسيرها... اختلفنا أو اتفقنا، رضينا أم رفضنا. تلك أموال لا مجال للمكابرة أو الاجتهادات السياسية فيها. وهذا ما كنت أخاف منه أن تتسمّر القلوب المخلصة صامتة من أن تضغط سلميا لصالح قضية خوفا من تهمة التنازل، وخصوصا اذا كانت القضية مفعمة بالأرقام والوثائق.
وجدنا القضية (قضية افلاس الصندوقين) شائكة ودامية ومليئة بالألغام... أسماء عريضة، وزراء، مسئولين، ملايين الدنانير وعلى رغم كل ذلك آثرنا أن نلج النفق على رغم عتمته وخطورته ولمعان أسمائه وما يمكن أن يمارسوه من ضغط، ولكنا وجدنا أن القضية أكبر من المجاملة، حتى وان سكت الكتاب، وأغمض عينيه البصير مخافة الاتهام. ولعبت «الوسط» بوصفها سلطة رابعة دورا وطنيا كبيرا، وراح الكثير من الجمهور بأطيافه يتلقفها في الأسواق... ذكرني ذلك بقول مصطفى أمين في كتابه «صاحبة الجلالة: الصحافة»، «لقد انتهى زمن القارئ الواحد. وان يكون الكاتب والقارئ في الوقت ذاته وحدهما السلطة». ولسنا مبالغين اذا ما قلنا ان برلمانا بلا صحافة برلمان لا يمكن أن ينجح، بل ما قالته الصحافة البحرينية اليوم أشد وأقسى مما قاله البرلمان... فقد رحنا نكتب بموضوعية من دون أن تنزل علينا المطرقة المترنحة.
لقد كان موقف جلالة الملك - حفظه الله - بالدفع باتجاه حفظ التجربة والاصرار على استمرارها ودعوته إلى «معالجة أي نوع من التقصير ووقف أي تجاوزات والسعي الحثيث لاتخاذ كل الوسائل التي تكفل صيانة هذه الأموال...» كما جاء في تصريحه يوم أمس ونشر في الصحافة المحلية، كان موقفا تاريخيا داعما لما طرح في البرلمان والصحافة من ان الأموال العامة مصونة لا يجوز المساس بها. موقف الملك وضع حدا لكل الأصوات التي ارتفعت مدعية الخوف من تكرار تجربة 75، أي حل البرلمان وما الى ذلك.
إن هذه فرصة تاريخية للنواب لاكمال عملية الاستجواب وطرح الثقة أيضا بلا مجاملة، وهذا حق دستوري... بعض هؤلاء الوزراء أثبتوا أنهم غير قادرين على ايصال الهيئتين الى بر الأمان، والدليل الخسائر المليونية وشطب القروض والترف الفاضح في داخل هيئة التقاعد حتى لا نصبح كالقناني الغازية تثور بسرعة وتهدأ بسرعة، فأقل القليل - مع تحقيق التوصيات - لابد من استجواب وطرح الثقة ببعض هؤلاء الوزراء لكي يتخذ بقية الوزراء من ذلك درسا، فالجزاء يجب أن يكون من جنس العمل. وهذا ما يجري عادة لدى أكثر الديمقراطيات ضعفا. فالحمية الوطنية ليست موسمية تظهر فجأة وتختفي فجأة كمواسم المشمش، وقضية المال العام ليست موقعا للانفعالات الغازية كما عبرت عنها، فإذا صمت النواب بعد كل ما جرى من دون أن يمارسوا سلطتهم وحقهم الدستوري في حجب الثقة فإنهم سيفقدون جزءا من صدقية ما طرحوه، ويجب بعد ذلك ألا يتأثروا لأية غربة مجتمعية مقبلة، فالناس وضعوا كل ثقلهم معهم، ونام البعض منهم - من الناس - بين أنياب تمساح القضية أملا في استرجاع أو تحقيق ولو جزء من المال العام الهارب. فهذا الامتحان يعد الامتحان الأول للنواب، والسقوط أو الرسوب في امتحانٍ ثانٍ وثالث لو خسروا في الأول بحجم هذه القضية المطروحة (قضية افلاس الصندوقين) اذ يعطي معاني كثيرة لا تخلو من دلالات تشاؤمية لا يمكن تهدئتها عبر خطب مكرفونية... فالناس تريد من النواب حلولا للقضايا المهمة من قبيل الفقر، ارتفاع الأسعار، تدني الأجور، انتشار البطالة، التجنيس، التمييز، حفظ المال العام... هذا ما يريده الناس، أن يحصلوا على مالٍ يحمل لغة الكرامة، فكيف لو علموا أنهم بدلا من أن يعطوا مالا يؤخذ مالهم ويكتب عليهم خسارة استثماراتها على ورقة بـ 50 فلسا؟ ليس لأحد من النواب أن يقدم اجتهادات سياسية لتوافقات غير مكتوبة بفترة زمنية أو ليست بحجم مستوى الخسائر، فالحل في اعتقادي ذو شقين، الأول: تحقيق التوصيات مضافا إلى حجب الثقة عن أي وزير ليس بمستوى مسئولية الحفاظ على المال العام
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 504 - الخميس 22 يناير 2004م الموافق 29 ذي القعدة 1424هـ