في كتابه «الفرق بين الفرق» يتخيل الإمام البغدادي جلسة تألفت من سبعة من زعماء القدرية (المعتزلة) وتكلموا في قدرة الله على «الظلم والكذب» فاختلفوا على مقالات سبعة (ص 185 - 189). كلام البغدادي له أكثر من دلالة فهو من جهة يشير إلى تعارض قادة المعتزلة وانشطار مدارسها إلى عدد لا يحصى من المقالات. كذلك يشير من جهة أخرى إلى مستوى الضعف الذي وصلت إليه المعتزلة في عهد المقتدر وبعد انقلاب الأشعري على استاذه.
في كلام البغدادي بعض السخرية من المعتزلة ومقالاتها إلى درجة إذا اجتمع سبعة من قادتها لمناقشة مسألة واحدة اختلف السبعة عليها. هذا النوع من الافتراق بدأ من زمن بعيد إلا أنه انكشف حين خرجت المعتزلة من الدولة وتمزقت إلى فرق تبحث عن قائد عام أو مرجعية مركزية الأمر الذي أفقدها صدقيتها حين لم تجد من يعيد انتاج خطابها الواحد في مواجهة حركة تنويرية اسلامية قادها الائمة والعلماء وصولا إلى تأسيس مدرسة فقهية جديدة تعتمد الكلام كعلم في قراءة السنة والحديث.
هناك ما يبرر سخرية البغدادي من زعماء المعتزلة. فهذه الحركة التي دخلت مرحلة نزاعها الأخير بدأت تواجه انتفاضة فكرية مضادة من دون أن تعيرها الانتباه وتلاحظ جملة مفارقات اخذت تتبلور في الجبهة الثانية. فحتى لحظات النزاع الأخير تواصلت خلافات قادة المعتزلة. فالكعبي (البلخي) وعرفت فرقته بالكعبية (وهم أصحاب ابي القاسم عبدالله بن أحمد بن محمود) كان من تلامذة الخياط ومن «معتزلة بغداد» كما يقول الجرجاني في «التعريفات»، خاض معارك كلامية ضد الجبائي (الأب والابن) وخالف «معتزلة البصرة» في مسائل كثيرة، مؤكدا ان «فعل الرب واقع بغير إرادته، ولا يرى نفسه، ولا غيره إلا بمعنى أنه يَعلمه». (الجرجاني، ص 237).
هذا العالم والمتكلم و«رئيس أهل زمانه» كما يذكر ابن النديم في «الفهرست» تركزت معركته الفكرية مع من تبقى من المعتزلة من دون ان يدرك ان الزمن تغير وان الواقع أنتج قوة فكرية جديدة لا صلة لها بمقالات المعتزلة. وتكشف عناوين كتب الكعبي عن توجهات لا صلة لها بعصره، فهو إلى جانب كتبه الرئيسية مثل «المقالات» و«الاستبدال بالشاهد على الغائب» و«السنة والجماعة» أصدر سلسلة ردود منها الرد على البرغوث (البرغوثية) مؤيدا فيه العلاف (أبو الهذيل) ونقض مسألة «الأصلح» في رده على ابي علي الجبائي، ورد على ابن قبة، ونقض رأي الرازي في العلم الإلهي.
وفي الوقت الذي كانت بغداد تشهد نهوض حركة سلفية - أصولية كان الكعبي وهو «حاطب قبل ان ينحاز إلى مختلف انواع العلوم» كما يذكر البغدادي يعارك معتزلة البصرة دفاعا عن معتزلة بغداد مؤيدا النظام (فيلسوف المعتزلة) في قوله «إن الله لا يرى شيئا في الحقيقة». ورد البصريون عليه وكفروه بسبب نفيه «إرادة الله».
وفي وقت كانت الخلافة تشهد سلسلة انقلابات وانقسامات في المغرب والجزيرة وتخرج عليها الولايات استمر الكعبي في مناكفة معتزلة البصرة في مسألة الاستطاعة. البصريون قالوا: ان للاستطاعة معنى غير صحة البدن والسلامة من الآفات، قال الكعبي: انها ليست غير الصحة والسلامة. (الفرق، ص 165 - 167).
هذا النوع من الكلام تحول مع نهايات المعتزلة إلى نوع من اللغو حين أكثر قادتها التفكير في الجزئيات وصولا إلى قول الكثير من التفاهات بينما كان الزمن يكشف عن ظهور مدارس فقهية أسست لاحقا لسلسلة من التيارات الفكرية - الفلسفية التي ستلعب دورها لاحقا في العصور الإسلامية على مختلف جبهاتها السياسية والعسكرية والثقافية.
توفي الكعبي في العام 309 هجرية ويقال ايضا في 319 هجرية (931م) الا أنه لم يترك تأثيره الكبير سوى ذاك الكتاب الذي ارخ فيه طبقات المعتزلة واختلافات مدارسها.
عاصر الكعبي ابي علي الجبائي وتخاصم معه ومع ابنه ابي هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي. فالأخير ورث والده وقاد «معتزلة البصرة» وتخاصم مع «معتزلة بغداد». وحين اختلف الاشعري مع والده انحاز إلى مدرسة ابيه حتى وفاته. وبعد وفاة الاب انقلب الابن عليه وغادر البصرة إلى بغداد التي قدم اليها في سنة 314 هجرية (926م).
انقلاب الجبائي الابن على الأب يختلف عن انقلاب الاشعري على استاذه. فالأول لم يخرج عن دائرة المنظومة المعرفية لفكر المعتزلة بينما الثاني اسس قواعد انطلاق لدائرة معرفية جديدة في الفقه الاسلامي ناقضا بها الأسس والمنطلقات التي عاشت منها وعليها فرق المعتزلة طوال عقود من الزمن.
قال الجبائي (الابن) الكثير من الافكار ويعد له ابن النديم في «الفهرست» عشرة كتب من تأليفه، منها: نقض ارسطاليس في الكون والفساد، والطبائع والنقض على القائلين بها. الا انها في مجموعها لا تضيف الكثير على افكار المعتزلة، فهي مجرد تنويع على المنوعات مثل قوله عن الاعراض «بان لله تعالى أحوالا مختصة به». ويرد عليه الفخري في كتابه «تلخيص البيان» بأن «هذه عظيمة جدا إذ جعله حاملا للأعراض» (ص 94 - 95).
أهم ما فعله الابن هو انقلابه على بعض اقوال والده من دون ان يخرج على القواعد العامة للنص. الا ان الانقلاب يشير في العمق الى تلك الأزمة الحقيقية التي دخلتها المعتزلة في اللحظات الاخيرة من النزاع مع الزمن. والشهرستاني يذكر في الجزء الأول من كتابه «الملل والنحل» بعض تلك الخلافات مشيرا إلى المسألة وكلام الأب عنها واختلاف كلام الابن عليها. وهي ايضا لا تدل على تطور حقيقي في المنظومة المعرفية بقدر ما تدل على مجرد اجترار لأفكار مكررة.
لم يعد العصر عصر المعتزلة اذ اختلفت الأحوال في زمن الجبائي (الأب) والخياط والكعبي والجبائي (الابن) وتغيرت المقالات وشهدت الخلافة انقلابات سياسية في المركز والأطراف جلبت معها وضدها الكثير من المعالم الجديدة لعصر جديد برز فيه دور الوزراء وتأسست خلاله ما عرف لاحقا بعهود الأسر وكان على رأسها الأسرة البويهية ودولتهم البويهية.
لاحظ الجبائي (الابن) هذا التحول في اللحظات الأخيرة من حياته فحاول ادراكه فاتصل بابن عباد (أصبح وزيرا في عهد دولة بني بويه) لتجديد الصلة التي انقطعت بين الدولة والمعتزلة... الا ان الزمن ادركه فتوفي في العام 321 هجرية (933م) وهي السنة التي يعتبرها المؤرخون بداية ظهور الدولة البويهية. فرحيل آخر الكبار في المعتزلة كان بداية لنشوء جيل جديد سيكون له شأنه في تاريخ الدولة العباسية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 504 - الخميس 22 يناير 2004م الموافق 29 ذي القعدة 1424هـ