ما هو الجديد، وغير المتوقع، قاله الرئيس الأميركي جورج بوش في خطابه عن حال الاتحاد أمام الكونغرس بحضور وفد من مجلس الحكم الانتقالي العراقي المعين؟
الخطاب امتد لفترة 50 دقيقة وهو الثالث منذ توليه منصبه. وعموما يعتبر الخطاب من تقاليد الرئاسة وهو سنوي، فهو كلمة رئاسية يشرح فيها الرئيس نهجه السابق ويدافع عنه ويبرره أمام السلطة التشريعية. فالخطاب من التقاليد ولكنه في كل مرة يرسم تصورات يوضح فيها الرئيس خطوط استراتيجيته ويحدد خطوات أميركا في الفترة المقبلة في حال أعيد انتخابه. وفي حال بوش يمكن اعتبار خطابه الذي ألقاه أمام الكونغرس ليل الثلثاء/ الأربعاء مناسبة لشرح برنامجه الانتخابي في وقت تشير استطلاعات الرأي إلى تراجع الحماس الشعبي لسياسته الخارجية.
الجديد في خطاب بوش هو تجديده لنقاط كثيرة أثيرت في تصريحات وكلمات سابقة له، فهو وجد في اللقاء السنوي مناسبة لإعادة تأكيد سياسات لاقت الاستنكار من حلفاء واشنطن وكادت أن تطيح بعلاقات قوية مع دول مهمة في أوروبا و«الشرق الأوسط». فالجديد إذا هو تكرار القديم وإعادة إنتاجه في صيغ تبرر ما فعله وتعطي سياسته شرعية محلية بعد أن فقدت صدقيتها بالنتائج الميدانية على الأرض. فبوش مثلا تحدث عن أفغانستان والعراق من زاوية عسكرية (النجاح في إسقاط النظامين السابقين) ومن ناحية الإرهاب (الحد من الهجمات على أميركا) ومن جهة أسلحة الدمار الشامل (الاستمرار في مهمة نزع هذا النوع من السلاح وضمان عدم وصوله إلى أنظمة خطرة).
هذا النوع من الكلام ناقص في مدلولاته. فهو يشير إلى نصف الحقيقة ويتجاهل النصف الآخر وهو فشل واشنطن في تحقيق وعودها. فأفغانستان بعد سنتين من إسقاط «طالبان» لاتزال تعاني المشكلات ذاتها، والعراق بعد أقل من سنة على الحرب لايزال يعيش في حالات ضعف واضطراب وفوضى. الجانب المغيّب في خطاب بوش ردّ عليه بكلام عام يُفهم منه أنه لن يتراجع عن خطته التي جاء من أجلها ولن يترك خلفه «عملا لم يكتمل». ومعنى ذلك أن بوش سيستمر في تسويق سياساته الدولية ولن ينسحب أمام الضغوط حتى لا يُفسر تراجعه هزيمة للولايات المتحدة.
هناك الكثير من الفقرات الناقصة في خطاب بوش، وكذلك تعمد الخطاب تجاهل قضايا حساسة سبق والتزم بها ولكنه لم يشر إليها لا سلبا ولا إيجابا. فالخطاب لم يتطرق إلى السلام في «الشرق الأوسط» ولا إلى «خريطة الطريق» ولا إلى «جدار الفصل العنصري» ولا إلى تجاهل «إسرائيل» قرار مجلس الأمن الدولي ولا إلى مخالفة حليفه ارييل شارون التسوية السلمية والانسحاب من الأراضي المحتلة... وأخيرا وليس آخرا تعمد عدم إدراج «إسرائيل» في لائحة الدول التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل. باختصار، يمكن القول إن فقرة بوش المتعلقة بـ «الشرق الأوسط» كارثة سياسية وهي أقرب إلى الفضيحة، لأنه تجنب فيها حتى الإشارة إلى التزامه بقيام دولة فلسطينية في نهاية العام 2005.
من جديد «إسرائيل» هي استثناء وما ينطبق على غيرها لا ينطبق عليها. فـ «الشرق الأوسط» في خطاب بوش مجرد كتل من الدول لا وجود لـ «إسرائيل» من بينها. و«الشرق الأوسط» في خطابه هو مجرد جغرافيا مبهمة وغير واضحة الحدود يسيطر عليها الطغيان وتفرخ الإرهاب وتحتاج إلى ديمقراطية.
إلى الفقرات الناقصة في خطابه هناك فقرات غامضة، يمكن تفسيرها أو عكسها على أكثر من مستوى أو حذفها ودفعها باتجاهات مختلفة. فالغموض في هذه الفقرات يكسب الخطاب بعض المرونة التي يمكن إعادة تشكيلها بحسب ظروف المكان والزمان.
كلام بوش عن الأمن وكفاح أميركا من أجله يصب في هذا الإطار. فالفقرة غامضة حين يقول إنه منذ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول لم يقع أي هجوم جديد على أرض الولايات المتحدة. هذا الكلام مبهم لأنه أيضا قبل 11 سبتمبر لم تقع هجمات على أرض الولايات المتحدة. فضربة سبتمبر فريدة من نوعها في تاريخ أميركا إذ لم يحصل مثلها من قبل، وبالتالي فإن سياسة بوش الخارجية لا فضل لها في هذا الأمر في اعتبار أن ما حصل في ذلك اليوم لم يحصل قبله وربما لن يتكرر لاعتبارات كثيرة ليس لها علاقة بالضرورة بالحروب الدائمة أو بسياسة الضربات الاستباقية.
أيضا كلام بوش عن الإرهاب ومكافحته، فهو يلجأ أيضا إلى التعميم لتبرير سياسته. فهو يؤكد من جديد أن «الإرهابيين» مستمرون في التآمر، أي أنهم يخططون لضربات جديدة. هذا التعميم ليس جديدا في خطاب بوش لأن المقصود به ليس تخصيص حالة محددة بل ترك الكلام يتساقط بقصد تخويف الشارع الأميركي وإبقاء المؤسسات في حال استنفار للدفاع عن الأمن في مواجهة خطر محتمل لا يعرف شكله ولا مكانه ولا زمانه ولا من أين يأتي. فالكلام مفتوح على كل الجهات ومختلف الاحتمالات وهو بالتالي يردّ على حاجة محلية تلبي رغبات احتكارات المال والنفط وصناعات الأسلحة. فالحديث عن الطغيان في «الشرق الأوسط» و«استراتيجية الحرية» ومخططات الإرهاب يعني أن هناك حاجة أمنية إلى بقاء وجود القوات الأميركية منتشرة في العالم. فهذه القوات تملك مهمة عالمية كما ذكر بوش، وكذلك عندها مهمات أميركية وهي «جعل أميركا أكثر أمنا».
خلاصة خطاب بوش تعتمد على سلسلة من الفقرات العامة بعضها يتعمد قول نصف الحقيقة وبعضها يشوبها الغموض. وبين النقص والغموض هناك كلمات تبعث على القلق من إدارة تتحكم في إرادتها وقراراتها مجموعة من الإيديولوجيين تنظر إلى العالم من فوق في وقت يشهد «الشرق الأوسط» أزمات متفاقمة تتحمل «إسرائيل» مسئولية تبريرها أو إنتاجها نظرا إلى التسامح الأميركي مع أعمالها العدوانية.
والمشكلة مع واشنطن هذه المرة أنها أصبحت أكثر تطرفا من تل أبيب في الكيل بالمكيالين وفي حقن التطرف وضرب الاستقرار ورسم خريطة لا تعرف الإدارة من أين تبدأ بها وأين تنتهي.
والمشكلة أيضا أن غرور بوش وسذاجته تعززان استراتيجية عدوانية خطيرة لا تأبه كثيرا بمصالح العالم ولا تكترث بمواقف دول كبرى في أوروبا أو في آسيا. وكلام بوش عن استعداد إدارته للتفرد من جديد بقراراتها يؤكد أن استراتيجية الهجوم مسألة دائمة وليست مؤقتة، وإلا ما معنى كلام الرئيس الأميركي في الفقرة التي تناول فيها السياسة الخارجية حين قال: «أميركا لن تطلب أبدا الإذن للدفاع عن أمن مواطنيها»؟ فالدفاع عن أمن المواطنين كلام كبير يمتد من واشنطن إلى أية عاصمة في العالم. والدفاع في هذا المعنى يمكن أن يعبّر عن نفسه في سلسلة هجمات وحروب دائمة وضربات استباقية. فالدفاع ليس دفاعا بل هو هجوم على أمن المواطنين في دول أخرى قررت الولايات المتحدة أنها مصانع لتفريخ الطغيان والإرهاب.
خطاب بوش رئاسي - انتخابي، ودفاعي - هجومي، وناقص - غامض والمقصود منه ترك مساحات بيضاء بين الكلمات في انتظار أن تكتمل الأسماء والعناوين. وحين تكتمل يصبح بالإمكان التحدث عن مهمات محددة في مكانها وزمانها. فالخطورة في كلام بوش ليست النقاط التي أشار إليها بل المسائل التي تجاهلها أو تعمد قول نصفها بانتظار الوقت. والآن وقت انتخابات رئاسة وبعدها يصبح للحديث معناه المختلف حين تتضح الصورة وينجلي الغبار عن المعركة الداخلية. فالرؤية بحاجة إلى وقت وخصوصا حين يتحدث صاحبها عن «مهمات تاريخية»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 504 - الخميس 22 يناير 2004م الموافق 29 ذي القعدة 1424هـ