يبدو أن هناك «سيناريو» أخير لملف التأمينات والتقاعد لم يذكر بعد، وستكون له الأرجحية على كل «السيناريوهات» التي ذكرت قبل ذلك، وقد تم إرجاء ذكر هذا السيناريو إلى حين اكتمال فصول هذا الملف وتضارباته الكثيرة، لكي يكون الحكم عليه واضحا، فالسيناريو متعلق بإرباك موقف المعارضة من الملف الدستوري، ولا يجوز أن ينسج هذا السيناريو ونار ملف التأمينات والتقاعد حامية، والتصريحات النارية للنواب قد بلغت ذروتها، عندها سيقول الكثيرون إن هناك خلطا واضحا في الأوراق، أما وقد بدت ملامح نهاية هذا الملف بتعليق الاستجواب 45 يوما، والنظر في تطبيق الحكومة للتوصيات التي أقرها المجلس، يمكن نسج هذا السيناريو وحبك خيوطه ليكون التفصيل على مقاسه تماما، بعيدا عن «التمغيط» الذي يمارسه النواب، وكل «التسويات المحترقة» التي أعلنت ولم تعلن.
قبل ذلك، يجب الوقوف على مفارقة مهمة كانت ستربك وضع الملف برلمانيا لولا مداخلة النائب حمد المهندي التي وضعت خطا فاصلا لا يمكن التراجع معه عن الاستجواب، وإن كان ذلك بشكل مؤقت، أو أن المداخلة نفسها بلورت هذا الخيار تلقائيا، وأنقذت النواب من التصعيد ومن خسارة الرصيد الشعبي معا، ساعد على ذلك الطريقة السيئة في إدارة الجلسة لرئيس المجلس خليفة الظهراني، الذي أصر على التصويت على التوصيات والابتعاد عن الاستجواب، ما يجعل قبول النواب بمقترح الظهراني طعنا في كل تصريحاتهم النارية المنددة بالمتجاوزين، ولكن هذه المفارقة مرشحة للظهور قبيل انتهاء مدة 45 يوما إذا لوحت الحكومة بتنفيذ توصيات لجنة التحقيق، وباشرت ذلك في إطاره الشكلي.
الكثير من النواب ممن لا يريدون الذهاب بالملف بعيدا، سيؤكدون على دعمهم لتوصيات لجنة التحقيق، كوسيلة لتجنب الاستجواب ومحاسبة المتجاوزين، وسيكون رضاهم بذلك الوعد الشكلي من الحكومة بإرجاع الأموال لا غير، أما بقية التوصيات فستخضع للتجاذبات السياسية، وخصوصا أن الكثير منها يحتاج إلى تشريع إلى إنفاذها، ما يجعل مهلة 45 يوما محصورة في الوعد الشكلي بإرجاع الأموال وبعض التغييرات في الهيكل الإداري إن حصلت، وسيساعد على تعمية هذا الخيار وجعله ضبابيا، استعداد النواب وكذلك إحماء الحكومة لطرح ملف التجنيس كجزء من مشاغلة مدفوعة الثمن للمعارضة، وقد بدت بوادره تظهر بوضوح من دعوة وكيل وزارة الداخلية لشئون الجنسية والجوازات والإقامة الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة لنائب رئيس جمعية الوفاق حسن مشيمع إلى المناظرة، ما يعني أن الكثير من ملفات التجاوزات، وخصوصا ملفات الحقبة السابقة الغامضة، سيسدل الستار عليها مستقبلا بملفات أخرى، من دون القدرة على تقديم حلول جذرية لها.
هذه المفارقة المؤجلة لـ 45 يوما، والتي سيخبو أوارها أو أنها لن تكون شيئا مذكورا، لأن الجدل حينها سيكون على تنفيذ التوصيات لا على محاسبة المسئولين، وخصوصا بعد إقرار التوصيات، وبالتالي يصبح الاستجواب وكأن لم يكن، هذه المفارقة هي 'تسوية غازي' أي النائب فريد غازي، في قبال اشتراطات الكتل النيابية الأربع عدا كتلة «النواب الوطنيين الديمقراطيين» بضرورة اكتمال شروط الاستجواب ليتم تقديمه إلى الوزراء مع توقيعهم الفعلي عليه نتيجة الاضطرار له.
الأولى (التسوية) تضع شروطا أكبر من قيمتها الفعلية للطرف الحكومي المعني من هذه التسوية، ما يجعلها أشبه بـ 'الطبخة المحترقة'، ويجعل من القبول بالاستجواب بالنسبة للحكومة أهون الضررين إذا كان الاستجواب جديا من الأساس، فأن تضحي برأس وزير أو وزيرين أهون لديها من أن تضحي بملفات عقود ثلاثة قد تطيح برؤوس كثيرة، فضلا عن الإطاحة الطوعية برؤوس الوزراء المعنيين كما جاء في التسوية، وإعادة تشكيل الهيكل التنفيذي والإداري للهيئتين، وإعادة الأموال، وكما يقولون: فهذه التسوية «أغلى من بيع السوق» بالنسبة للحكومة.
على الطرف الآخر، كانت الكتل الأربع ترى أن اشتراطات تقديم استجواب للوزراء - قبل الاضطرار المفاجئ لتقديمه - لم تتحقق بعد، فما هذه المفارقة العجيبة؟ غازي ومعه «النواب الوطنيون الديمقراطيون» يمضون بعيدا بملف التأمينات والتقاعد، ويضعون شروطا تعجيزية للحكومة، ما يعني أن شروط الاستجواب وغيرها من الشروط قد توافرت لدى النواب لتقديم الاستجواب، فيما ترى أربع كتل نيابية (غالبية النواب) عكس ذلك. فما حقيقة هذا التباعد في الموقفين؟ هل هما دوران متباعدان لهدف واحد؟ وما هو هذا الدور الخفي؟ أم أنهما يعكسان تباينا في فهم عجز الأدوات الدستورية بين القفز عليها أو الاحتماء بها من جور المجاهيل السياسية التي تنتظر المجلس ونوابه معا، وإن على طريقة «كالمستجير من الرمضاء بالنار»؟
الواقع يقول إن موقف الكتل الأربع (السابق اللاحق) هو الأكثر واقعية بلحاظ عجز الأدوات الدستورية، ولكنه الأكثر تخاذلا ونكوصا بلحاظ كون الطعن في المادة 45 من قانون مجلسي الشورى والنواب ممكنا، وسيتضح هذا الخيار أكثر بمجرد التلويح الشكلي من الحكومة بتنفيذ التوصيات، فيما موقف غازي والنواب الوطنيون الديمقراطيون أكثر جنوحا وضبابية بالنسبة للمتتبع العادي.
موقف الكتل الأربع كان يرتكز على المادة 45 نفسها في تفسير عدم تحقق شروط تقديم الاستجواب، وتحديدا استجواب كل من ثبتت عليهم مسئولية التجاوز وفق تقرير لجنة التحقيق، فيما تحول المادة 45 دون استجواب وزير واحد على الأقل، وهو وزير العمل السابق وزير الدولة الحالي عبدالنبي الشعلة، والحال أنه حظ «المادة 45» لا أقل ولا أكثر، جعل الوزير الشعلة يفلت من الاستجواب إذا كان ممكنا بعد انقضاء مدة 45 يوما، وهو ما دعا غازي إلى إعلان استجواب الوزراء الثلاثة (سيف - الشعلة - العلوي)، بعد تبرئته ساحة وزير العمل الحالي مجيد العلوي من ارتكاب أية تجاوزات في تصريحات صحافية سابقة، ما يعني أن المعايير القانونية مختلة في حكم النواب، فضلا عن اختلاطها بالمعايير السياسية حتى مع الوزراء بصفتهم رجال دولة مأمورين أكثر من كونهم منتمين لهذه الطائفة أو تلك.
من هذا المنطلق تحديدا، يمكن فهم الجنوح والضبابية التي يمارسها غازي ومعه «النواب الوطنيون الديمقراطيون» في إطلاق التصريحات النارية من خلف منضدة المادة 45، ومن دون تجاوزها قانونيا، وإنما إعلان تجاوزها بصورة غير شرعية عبر تسوية سياسية، ما يعني أن حقيقة الاستجواب من الأساس قد تكون محل شك، فهؤلاء النواب يراد لهم أن يكونوا واجهة العمل المعارض داخل المجلس، بما لا يؤثر شيئا في المعادلات السياسية داخله عدا في مشاغلة الأطراف السياسية خارج اللعبة، وخصوصا أن الكثير منهم منتمون إلى جمعيات سياسية، من المفترض أن تكون ذات تاريخ نضالي كبير، وهو ما يستند عليه هؤلاء النواب بدرجة كبيرة في هذه المشاغلة، وخصوصا مع وجود المتعاطفين، أو الأطراف غير القادرة على تشخيص الخطوط التفصيلية لمسار العمل السياسي، وهم كثر ويا للأسف.
يبقى أن القطاع الأكبر من النواب سيراوحون خلف منضدة المادة 45، ولكن من دون هذا «التهويش» الذي يمارسه غازي و'النواب الوطنيون الديمقراطيون'، لهذا فمن المرجح أن تستمر هذه اللعبة لفترة أطول، لتكون المشاغلة لمن هم خارج اللعبة أكبر فأكبر، ولا أجمل من فرصة 45 يوما التي جاءت مواتية أو ربما مقصودة لترتاح أعصاب النواب، كما هو الحال بالنسبة لتشكيل لجنة التحقيق في التجنيس التي جاءت تحديدا في عطلة النواب الصيفية، «ويا لمحاسن الصدف».
مدة 45 يوما كافية لأن تكون ملهاة للشارع والمعارضة، مع تخلي النواب بعض الشيء عن راحة بالهم وعطلتهم المقررة لهم، عبر إطلاق بعض التصريحات في الصحافة سواء عن ملف التأمينات أو الإحماء لملف التجنيس، ليبقى هذا التدوير سيد الموقف سواء كان بقصد أو بغير قصد، والهدف الأساس هو المؤتمر الدستوري يقينا، إذ ستزداد ضراوة الملفات الساخنة وربما المبادرات السياسية لحلحلتها لتكون قادرة على إلهاء الشارع والمعارضة من جهة، وإخماد ملف التأمينات والتقاعد وسلبه ذاك التأجج والانتفاخ من جهة أخرى، وستظهر يقينا مشاغلة الحكومة للمعارضة على مكان إقامة المؤتمر كالعادة ليصبح حديث الشارع والصحافة وكتاب الأعمدة، وهكذا معركة جديدة، وقصة جديدة، ولا شيء جديد.
من هنا، يمكن إعطاء نهاية متخيلة لملف التأمينات والتقاعد خارج إطار السيناريو الأخير، عبر توصيف مجموعة من الحقائق الضرورية وفهم مدلولاتها وتأثيرها على هذا الملف، وكذلك على تعاطي الحكومة مع الملفات الساخنة بصفتها مدخلا دائما لإرباك وضع المعارضة ضمن سيناريوهات متعددة، يكون حال الإرباك لوضع المعارضة فيها السيناريو الأول والأخير.
أولا: إن تخيير مجلس النواب للحكومة بين قبول التوصيات أو الاستجواب يعني أن التوصيات هي المطمح وأن الاستجواب بعيد المنال، بغض النظر عن 'تسوية غازي' التي تبدو غير مهضومة للنواب أنفسهم، وبعبارة أخرى أنهم غير قادرين على المواصلة فيها، ومناكفة الحكومة إلى نهاية الخط، وهذا سيعطي الحكومة يقينا فرصة للوعد بإرجاع الأموال من دون إقالة أي من المتجاوزين أو تغيير الطاقم الإداري، لعلاقة ذلك بالتشريع المعروفة نتائجه وأدواته وآلياته، وخصوصا أن النواب لم يتجاوزوا عمليا المادة 45، بل يطلقون تصريحاتهم النارية من تحت مظلتها، ما يعني أن خيار البقاء على الوهج نفسه في التصريحات غير ممكن في ظل وجود المادة المذكورة، ووعد الحكومة بتنفيذ التوصيات، فالوعد بتنفيذ التوصيات مع ارتباط بعضها بضرورة تعديل التشريعات إضافة إلى قيد المادة 45 يجعل من الاستجواب منتفيا بشكل تلقائي، إن لم يكن على مستوى النائب فريد غازي و«لنواب الوطنيين الديمقراطيين»، فعلى مستوى غالبية النواب.
ثانيا: إن التهديد باللجوء إلى إحالة الملف للنيابة العامة باعتباره آخر الكيل كما يقولون سيؤدي بشكل واضح إلى تشظي الملف وبعثرته بين المجلس النيابي والنيابة العامة، وبالتالي يفقد المجلس خيار محاسبة المسئولين، ويجعلها رهينة بيد النيابة العامة في أغلب تبعاتها، وهو خيار غير وارد لأن تبعاته القانونية والسياسية أكبر من أن يتحملها واقع التجربة الوليدة، فالمادة 45 كانت حصانة مقصودة لحماية الكثير من الملفات السابقة بكل المتجاوزين فيها، واللجوء إلى النيابة العامة قد يفجر هذه الحصانة في وجه الجميع بشكل مضاعف، لأن الوزر الأصغر يجر الوزر الأكبر منه، وهذا ما لن يغامر به المجلس النيابي بكل كتله، فضلا عن كون النيابة العامة لم تتصد لهذه التجاوزات مع علمها بها.
ثالثا: إذا كان الخيار محدودا، ويتعلق بالوعد بإرجاع أموال الهيئتين، وكان خيار النيابة العامة مقفلا بالمادة 45 وبتبعاتها السياسية إذا تمت محاولة تفجيرها، فماذا سيبقى للنواب؟ والجواب: سيبقى التصريح والتصريح فقط، سواء بـ «تسوية غازي» أو بـ «توصيات اللجنة»، وبين ذلك وذاك لا شيء جديد سوى مشاغلة المعارضة عن ملفاتها الكبرى، وتحريك ملفات أخرى كالتجنيس مثلا، إمعانا في المشاغلة.
والسؤال: أين مكمن الخلل في الواقع السياسي المعارض ككل؟ وكيف تثار حوله كل هذه الزوابع في وقت يوصف بأنه عاجز وخارج اللعبة السياسية؟ والجواب كان مكرورا وسيظل مكرورا إلى أن يتحقق: لابد من توازع القوة والملفات السياسية، وعدم حصرها في أيد قليلة لأنها غير قادرة على النهوض بها، وستكون الحكومة والبرلمان وأي طرف يدخل اللعبة اضطرارا أو كلاعب أساسي قادرا على مشاغلة المعارضة بأكثر من ملف من دون قدرة المعارضة ولا الطرف المشاغل على حله، وما لم تحدد الأدوار، وتوكل المهمات إلى أشخاص بعينهم، بحيث يتصدى لكل ملف أشخاص لا دخل للآخرين بما يقومون به من أدوار عدا الإسناد والدعم والاستثمار السياسي المتقن للنتائج إن حصلت، ما لم يتم فعل ذلك فسيبقى العمل السياسي المعارض مراوحا مكانه.
عجيب أن تصر القواعد والجماهير على أن تتحمل فئة قليلة من الرموز كل هذه التبعات السياسية المرهقة، أو لن تأخذ هذه الملفات من هدوئهم وسكينتهم وتركيزهم وقدرتهم على العطاء؟ أو ليس التركيز على أشخاص بعينهم معناه انتفاء العمل المؤسساتي الذي يتشدق به الجميع؟ أو ليس التركيز على أشخاص بعينهم معناه حرقهم في خضم هذه الملفات المتراكمة؟ وقفة تأمل رجاء
إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"العدد 503 - الأربعاء 21 يناير 2004م الموافق 28 ذي القعدة 1424هـ