هل هناك ما هو أروع من الآية الكريمة «عفا الله عما سلف» (المائدة:95)؟ هذه الآية الواردة في مقام الصفح والعفو الكريم، ولكن أن تستخدم للتغطية على تجاوزات وأخطاء يرتكبها البعض ويدفع ثمنها آخرون فهذا ما لا يمكن القبول به بأي شكل من الأشكال.
القارئ المدقق للتاريخ الإسلامي يمكن أن يقف على حقيقة مهمة: وهو دور المال الكبير والسلبي في التغييرات التي شهدتها التجربة الاسلامية الأولى. معاناة الرسول الكريم (ص) طوال الفترة المكية كان باعثها الأكبر معارضة الرؤوس القرشية الكبيرة للرسالة الجديدة، لأنها كانت تهدد مصالحهم وتجارتهم. وعندما جاء إلى المدينة عانى من بعض القيادات التي هدد وجوده في الأرض الجديدة مصالحها. وكلنا نعلم ان ابن سلول، رأس المنافقين في المدينة، كان على وشك أن يتوّج رئيسا قبيل وصول الرسول (ص). أما بعد وفاته فنقرأ في كتب التاريخ عن «حروب الردة» التي كان أحد أسبابها التمرد (المالي) على السلطة المركزية، وبتعبير الخليفة الذي أعلن الحرب: «منع عقال بعير»، وهو بالمصطلح الحديث أقرب إلى الامتناع عن دفع الضرائب (المالية) إلى العاصمة. ثم بعد عقد من الزمان حدثت الفتنة التي لعبت فيها الامتيازات (المالية) الدور الأكبر وانتهت بمقتل الخليفة الثالث، أما الخليفة الرابع فواجهته القوى التي «ريّشت» واستطالت على الناس، ورأت في نفسها طبقة أعلى من سواها من أبناء آدم. ومن هنا لم يسترح الخليفة الرابع طوال خمس سنين، ومن بين ثلاثة حروب، لعب (المال) والمصالح في اثنتين منها الدور الأكبر، وفي الثالثة لعب الجهل والغباء السياسي حتى أجهضت التجربة الاسلامية الناصعة، فعادت القوى القديمة لتحكم هذه المرة باسم الاسلام، ولتحرف مسار العدل الذي أراده محمد (ص) نهجا لهذه الامة، فانقلب حكم الشورى إلى ملك عضوض، وانقلب الخلافة الراشدة إلى «هرقلية وكسروية» إذا استعرنا التعبير من الخليفة عمر بن الخطاب.
هذه صفحات من تاريخنا الواقعي غير المزيف وغير المكذوب. معاناة، وحروب داخلية، وإرهاصات عنيفة دفعت الأمة أثمانها باهظة من الأرواح والأموال والأعراض، كل ذلك ضريبة المطامع الشخصية غير المشروعة. من هنا قال الإمام عليٌ وهو واقف على رأس تلك التجربة المريرة يقيّمها ويعلّمنا: «المال رب الأشرار».
ونحن اليوم في هذا البلد الصغير الحجم، القليل السكان، الفقير الإمكانات، الذي أتعبته المحن السابقة وأنهكته السنون، لو بحثت عن أكبر أسباب علته، لوجدت المال والمطامح الشخصية للإثراء السريع وغير المشروع. ابحث بنفسك في كثير من جوانب حياتنا لتقف على هذا الورم الخبيث. وإذا كثر الحديث اليوم عن الفساد المالي والإداري، وأخذ الناس يتابعون قضية التأمينات وما تكشفت عنه، فلوجود أجواء الإنفتاح الجديدة. أما إذا أردنا الحقيقة فالموضوع لم يكن مجهولا لدى الناس، ففي هذا البلد الصغير لا تخفى على الناس خافية، الكل يعرف الكل، وإذا باع أحدهم أرضا أو اشترى سيارة في المنامة، عرف بذلك من يعيش في جو وعسكر بعد ساعتين... فكيف إذا كانت هناك صفقات وخسائر بالملايين؟!
على أن أخطر ما في الأمر، وبعد كل ما تكشف من أخطاء وتجاوزات كبيرة، هو رفع شعار «مسروق» من القرآن الكريم، يراد به التغطية على ما جرى، وهو ما نحذّر منه أولا وآخرا، فمن ذا الذي يقوى بعدها على الوقوف أمام شعار قرآني؟ ومن ذا الذي يجرؤ على معارضة «آية قرآنية» تدعو إلى «الصفح» والعفو عما سلف؟!
إذا لم يكن هناك حياءٌ من التلاعب بأموال الناس، فليكن هناك خوفٌ من الله من التلاعب بقرآنه وآياته. ويجب ألا يجري استغلال هذه الآية الجميلة: «عفا الله عما سلف»، للتغطية على الأخطاء والتجاوزات، وليس من حق أحد أن يعفو عن مخطئ تسبّب في ضياع ملايين الدنانير من أموال الناس ومدخراتهم. وإذا كان هناك من يملك الحق في العفو عن المخطئين فهم أصحاب الأموال التي تبخرت في الهواء.
وإذا أردنا فعلا سلوك طريق الإصلاح فعلينا أن نصحح الخطأ باتباع الصواب وليس بالمداهنة والتغطية. وإذا استلت بعض الأقلام من أغمادها للدفاع عن المخطئين بالاستشهاد بسيرة غاندي محرر الهنود، فلهؤلاء نقول: «ماذا كان غاندي سيفعل لو سرق صديقه نهرو ألف روبية أو تسبب في ضياع خبز عائلة واحدة من المنبوذين الهنود؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 503 - الأربعاء 21 يناير 2004م الموافق 28 ذي القعدة 1424هـ