العدد 503 - الأربعاء 21 يناير 2004م الموافق 28 ذي القعدة 1424هـ

مسلسل الحجاج... طمس ثقافة المعارضة (2 - 3)

الدمام - منصور القطري 

تحديث: 12 مايو 2017

ثمة دروس نستفيدها من التاريخ بالمقارنة بدور الشعراء قديما وإسقاطات ذلك الدور على الوضع الراهن. في هذه المرحلة نجحت الدولة العربية في عملية احتواء ذكية لدور الشاعر والمثقف وذلك عبر إلحاق الجميع بمؤسساتها المدعومة أو شبه المدعومة (الشراكة)، فأعطتهم ما كان الممدوح يعطيه لقاء قصيدة مدح كانت تتم في العهد الأموي (وأهم هذه المؤسسات هي الصحافة والفضائيات) ومعلوم من يقف خلف هذه المؤسسات الضخمة وقد اجتذبت هذه المؤسسات ضمن شروطها القطاع العريض من المثقفين والمفكرين في الوطن العربي. فاستبدلت قصيدة المدح نمطها القديم وتمت الاستعاضة عنه بنمط جديد من الانتساب للدولة. بمعنى دخول منافسين جدد للشعراء وهم أصحاب الفكر والثقافة، ولكن ليس للمدح بل للدفاع والتبرير الأيديولوجي فصارت الجوائز والمكافآت (شراكة) بين الفريقين وفقا لمواصفات ومقاييس الدولة المانحة! موت المثقف أو الداعية:

المسلسل في ظني لم يوفق في تأجيج حال الصراع بين (المثقف وذاته) بمعنى لم يتمكن من تصعيد حال الإنهزامية وسقوط المثقف أمام غريزة (المال - السلطة) على رغم توافر المادة التاريخية فالحجاج في نظر المسلسل «معلم قرآن»، وعبدالملك بن مروان يتمتع بثقافة دينية عالية، وكان يعد أحد فقهاء المدينة أي من طبقة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ويقول «الشعبي» عنه: ما ذكرت أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبدالملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ولا شعرا إلا زادني فيه. وكان يقال فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب وعبدالملك بن مروان وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب. (راجع موسوعة التاريخ الإسلامي - أحمد شلبي - جزء الدولة الأموية).

إذا حال الاعتراض على مستوى الأفراد كانت متمثلة وقد جسدها المسلسل فقط في حال الصراع مع «سعيد بن جبير»، وقد كانت حال المواجهة تتصاعد بشكل متألق لكن المشهد الغائب هو حال التحول عند الحجاج وعبدالملك بن مروان باعتبارهما «نموذجين» لازدواجية صراع المثقف وتخليه عن قيمه ومبادئه وانهزامه أمام إغراء الجاه والمنصب! ونحن لا نندهش من ممارسات الجلادين والعساكر ووقوفهم مع الدولة في عنفها على الناس لكنه جدير بالتحليل والدراسة الوقوف عند هذه الظاهرة التي قد تصل أحيانا إلى درجة التوحش حين يهرول «المثقف العربي» في عنفه ضد الشعب مع قوات مقاومة الشغب؟ إنها ظاهرة قديمة جديدة حيث وقف الشاعر الكبير (أبوتمام)؟ في ساحة الإعدام يهجو «بابك الخرمي» وهو يشهد السيف يغوص عميقا في لحم الرقبة؟ ومن المفارقات أن (ابن بطوطة وهو رجل عادي يدون ما يرى يذكر في رحلته أنه كان في مجلس حاكم الهند المغولي «محمد تغلق» وجيء بأسير فأمر بتوسيطه أي قطعه نصفين من وسطه فنهض ابن بطوطة ليخرج فأمسك به الشاه المغولي وسأله: إلى أين؟ فأفهمه أنه لا يتحمل مشهد الذبح والتقطيع ولا يسعه أن يبقى جالسا فلما وجده القائد المغولي مصرا على المغادرة عفا عن الأسير فخرج ابن بطوطة مع الأسير سالما من الأذى ونترك للقارئ حرية أن يحلق في فضاء واقعنا العربي يستدعي ما يشتهي من المفارقات على طريقة «الشاعر الكبير أبوتمام والرجل العادي ابن بطوطة».

نعم نحن اليوم بأمس الحاجة إلى رصد وتحليل المشهد التاريخي وربطه بشكل رائع بمعطيات ونتائج الوضع العربي الراهن، فهو في نظري قمة الإبداع، لأن تلك المفارقات تقدم شحنة معنوية وسياسية أمام حال الخنوع «الانهزامية»، والإنسان العربي يرصد في وعيه عدم استقالة أي وزير من وزراء الإعلام العرب احتجاجا على آلة الذبح الصهيونية في حال من صمت الأموات، توجد شريحة في المجتمع لها سلطة معنوية ويجب أن يكون لها موقف، فهناك مشهد يجب أن يكون حاضرا في ذاكرة كل مثقف ويتلخص ذلك في مواجهة تمت بين أحمد بن مرداس والشاعر المفكر أبي العلاء المعري اذ كان بن مرداس حاكما لحلب وذات يوم جرد حملة تأديبية ضد معرة النعمان للاقتصاص من أهلها الذين لم يؤدوا ما كان مطلوبا منهم من ضرائب وعند رؤية طلائع الجيش هرع أبناء المعرة إلى أبي العلاء المعري وهو رجل أعمى يستخونه ويستنجدونه ولما استجاب أركبوه حمارا أمام جموع المعرة فأعلمه طليعة جيشه أنه أبوالعلاء المعري فما كان من (ابن مرداس إلا أن نزل عن حصانة وسار في اتجاه الشيخ الأعمى وسأله عما يريد وبماذا يمكن أن يسترضيه فأجابه دع أهل المعرة وشأنهم فاستجاب بن مرداس وانكفأ عن المعرة: هكذا يستطيع المثقف أن يوقف بسلطته المعنوية جيشا! أهم ما تحمله قصة المعري أن تستثيرنا وتشوقنا إلى ما بات مفقودا فاستحضر ما علق في ذاكرتي من شعر مظفر النواب وهو يصف بذائقته الرائعة مشهد الطفل الفلسطيني فارس وبقبضته الحجر وهو يواجه الدبابة الإسرائيلية وحيدا: (... رمى حجرا واشرأب...

رأى أنه شج وجه الظلام... تجاوز قامته ورمى حجرا آخر فاشرأب الإمام... وكبر... هذا الحسين يقاتل جيشا عليه السلام).

لماذا يثور الناس؟(why men rebel )

البعد الثاني في هذه الورقة تتصل بتهميش المسلسل لحال «المعارضة» تماما كما تفعل كتبنا التاريخية الرسمية؟ فالمعارضة عند جون جالبريث كما يعرفها في كتابه «تشريح السلطة» بأنها: جزء مكمل لظاهرة ممارسة السلطة نفسها ولولا تلك المقاومة لامتدت السلطة إلى غير حدود ولأمكن أن يظل الجميع خاضعين لمن جهز وأعد بشكل أفضل لاستعمالها.

إن الكلام عن تهميش المعارضة يتطلب منا قراءة لا تتسع لها هذه الورقات - وإن كانت مكثفة إلى حد ما - وكل ما أخشاه ألا يتغلب التاريخي على السيسيولوجي؟ فالحركات الاجتماعية والحركات الفكرية والشوارعية في تاريخنا الرسمي ينظر إليها بعنوان الفتنة والشذوذ فالخطورة الكبيرة إذا هو أن المسلسل يشرعن بطلان كل معارضة باعتبارها فتنة، فإذا تمكنت المعارضة من الحكم فهي شرعية! ويمكننا ملاحظة ذلك في قضية عبدالله بن الزبير فعلى رغم عرض مشاهد زهد الرجل وأنه ابن أسماء بنت أبي بكر فإنه خارج على السلطة لماذا؟ لأنه لم يتمكن من السلطة ولو تمكن لكان خليفة للمسلمين! (راجع على سبيل المثال أيضا موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي الذي يعبر دائما بلفظ فتنة ابن الأشعث، ولو أن ابن الأشعث تمكن من الحكم لأصبح خليفة المسلمين)





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً