العدد 503 - الأربعاء 21 يناير 2004م الموافق 28 ذي القعدة 1424هـ

بين منحدرين

«عندما نحلم بشيء، فإن الكون بأسره يطاوعنا على تحقيق حلمنا».

«لا تنس... أنه حيث يكون قلبك يكون كنزك».

من دون اكتراث يمضي عام، ويجُـدّ آخر في القدوم، وبيننا وبين الفناء موعد في عام، نسبقه ولا يأتي، ومع الحياة يتشكل الاحتضار.

من دون اكتراث إلى حواسنا، يغادرنا، ويدفع بالآخر كي يحتل أماكننا وأزمنتنا، ونمضي نكتب عنه مئات القصص في دمنا، ونشرع له أنسجتنا كي ينحت في أحشائها، ونَهبُ إليه الفرح، ونعطيه شيئا من لحمنا، ولوننا وزهدنا، لكنه يغادرنا من دون اكتراث، عام لم يرو الضمأ من الأشباح البيضاء، وأساطير الأحلام وحكايات الأطفال، ومن عباءة العنكبوت، يبزغ مارد اسمه «القادم» يفتح أذرعنا للمجهول وللماوراء ثانية، وننسحب من الجمر، صارخين: «آه... يا قمر تبدل لونه، ويا شمس تغربُ حيث تشرق» وما برحنا ننقب عنه، كلمة ضاعت في خبايا الورق الباهت، ونتسمرُ، ونخشى ألا نراه قمرا مشرقا في قلوبنا، وأن يهرب وراء ضباب يحجب الرؤية والحب بيننا وبينه، ونخاف، ويظل الخوف ضجيجا يشاغلنا، يفزعنا في اليقظة، ويكتم أنفاس أحلامنا، ويواصل المراوحة والمراوغة حول انكساراتنا.. هكذا من دون اكتراث يمضي، وقد خلفنا وراء الحياة حطاما وركاما، آهة وهذيان، صمتا وصياحا، نذرا ووعدا مع الموت الذي نسبقه ولا يأتي!

ومهما اتسعت حدقتا الضوء بيننا وبين «القادم»، ستطفو على الكون ألغازنا، وسنفضحُ إن داهمنا المطر، واقتلعت الريح الهاربة شجرتنا الخرساء، وتوغل الشاطئ في وحشتنا. قد يكون «القادم» أشبه بالقش المطل على عوالمنا، يجرُ أقدامنا، يجرحنا عند آلامنا، ويجبرنا، ويخبرنا، ويلح علينا بدفع أثمان خطايانا عن كل المهرجانات التي حَضرها نيابة عنا وعنه، بمناسبة وغير مناسبة، على موعد وغير موعد، هذا «القادم» الذي يحتكر صورتنا وصوتنا وأرضنا وعرضنا في لوحات حلزونية، يغرزنا أشواكا، ويبقينا عراة إلا من حقيقة الموعد الذي يسبقنا عن الموت!

من دون اكتراث «يمضي»، وأمام «القادم» ثانية، نتقافز كضفادع في الميدان، أرواحنا تشبه التكرار، ونكتشف أننا نتداعى مع الأنقاض، نقف برهة، كي لا نصدق اتساع الكابوس وتواتر الزلزال، انه يفقدنا شهية الحياة، وكعادته يسبقنا إلى الحفل، ونظن بأنفسنا الظنون، وننحني بانكسار، والهزال يغزونا ويتطاول على آمالنا، لا يتوانى عن وصف الخيبات الواحدة تلو الأخرى، يكررها، يتبارى، يلقي النرد في ساحة دارنا، ويشمت، ثم يشمت، ولاتزال الغابة الشاسعة قابعة للأمام يتدلى منها الاخضرار، وتحلق فوق أعالي أشجارها صقور من نار، ونتوقف عن اللهاث، وندعى للتأمل في رحيل الماضي غير المكترث، ويكثر السؤال عن البدايات المقبلة من رحم المدى، ونبحث عن الملاذ، فمع إدبار النهاية وإقبالها، ننتظر المولود باطراد، ذلك الذي لا يذبل، ولا يتآكل، نبحث عن الصلد، عن أحلامنا في اليقين، ثمة من يقفل النوافذ ويحفر الخنادق، ويشهر السيوف، كي يمنع التألق ويسدد لنا الطعنات، وتبقى سنواتنا المقبلة في مفاصل التاريخ، تدور ثانية في أفلاك آمالها وأحلامها، وتداري الخوف، تارة بالغناء والرقص، وأخرى بالتلاوات، بالكتابة والنحت والركل وتتبع آثار التفاصيل والتقاط الياسمين في صباحات إشراقها دوما في انتظار!

وقبل أن يغادرنا، وقف عند مسقط رؤوسنا، يردد علينا من دون اكتراث: «عليكم التحديق والدهشة، بالرؤية من تحت الأنقاض، هناك أسفل الأرض، عليكم بتأجيج الإثارة حتى يطوى النهار الذي خرج، وافتحوا لـ «القادم» فوق صهوة الجياد، كي يدون معكم قصة تختارون عنوانها من مسرات الحياة، زرقاء كعيون الطيور، وردية مثل زهرات الربيع، قصة تكثر فيها الأحاديث العابثة في زمن لا يضيق بكم، يصادق أحلامكم، يحرركم ويعزف في داخلكم لا خارجكم، يبعدكم عن الوهن ويصقل تمردكم، يورثكم الدفء حتى تعتريكم الريح، وعليها تهيموا في الفضاء، طلقاء، أشداء القامة، ساكنين، متيقضين للذي «مضى» من دون اكتراث... متيقضين «للقادم» هو الآخر من دون اكتراث





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً