في يوم السابع عشر من مارس/آذار الماضي قال الرئيس الأميركي جورج بوش «أفادت أجهزتنا الاستخبارية وأجهزة بلدان صديقة بما لا يدعو للشك أن النظام العراقي مازال يملك بعض أنواع الأسلحة الفتاكة»! وفي خطابه المتلفز بتاريخ 19 مارس العام 2003 بعد بدء غزو العراق قال بوش: «يعمل النظام العراقي في بناء منشآت لإنتاج أسلحة بيولوجية وكيماوية. كل يوم جديد يمر قد يساعد النظام العراقي في تزويد الإرهابيين بالأنثراكس أو غاز الأعصاب أو أسلحة نووية». وفي العاشر من يونيو/ حزيران الماضي، أي بعد إعلانه نهاية المعارك الرئيسية، عاد ليقول: «كان العراق يملك برنامجا لأسلحة الدمار الشامل».
في الأسابيع الأولى من العام 2003 جلس وزير خارجيته كولن باول في غرفة الاجتماعات بمقر وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه» في لانغلي وراح يطالع ملفا يتضمن معلومات أعدتها السي آي إيه عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. وراقب ثلاثون من كبار موظفي السي آي إيه كيف راح الجنرال السابق يهز رأسه يمينا ويسارا وهو يقلب الأوراق ويرمي بعضها جانبا وهو يزأر غضبا ثم لعلع صوته: لن أقرأ هذا الهراء. لكن ما قاله باول بتاريخ الخامس من فبراير/شباط في خطابه أمام مجلس الأمن الدولي كان نفس الهراء الذي وضعه موظفو السي آي إيه بين يديه في لانغلي لكنه لم يقل لمجلس الأمن الدولي انه جاء بملف الهراء وإنما وصف ما تحدث عنه عن أسلحة مزعومة في العراق بأنها نتاج عمل أجهزة استخبارات غربية وهي معلومات موثوق بها.
تحدثت الإدارة الأميركية عن 28 نقطة ضد صدام حسين وهي (28 نقطة) تدعو إلى محاربة العراق. اليوم وبعد مضي أكثر من نصف عام، لم تثبت صحة أي من هذه النقاط. لم يتم العثور على الأسلحة المزعومة ولم يتم تثبيت المزاعم بأن النظام السابق في العراق كان على علاقة بمنظمة القاعدة. بل كل ما ظهر وتم تأكيده أن حرب العراق قامت على أساس تقارير مغرضة ومزعومة ومبالغ بها أعدها فريق خاص تابع لوزارة الدفاع الأميركية Office For Special Plans مكتب المهمات الخاصة، عمل في تزويد المسئولين السياسيين خلال الأزمة بتقارير لا تمت للحقيقة بصلة.
وقد قام مكتب المهمات الخاصة (OSP) الذي يبلغ عدد العاملين فيه قرابة ثلاثين شخصا وتم إنشاؤه بتكليف من أبرز صقور الإدارة الأميركية، وزير الدفاع دونالد رامسفلد ونائبه بول وولفوفيتز، بنقل تقارير أجهزة الاستخبارات إلى ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي من دون التدقيق بمضمونها ومن دون أن تراجعها وكالة السي آي إيه. وكان تشيني بدوره يرفع هذه التقارير إلى الرئيس بوش. وفي صباح كل يوم كان مدير السي آي إيه جورج تينيت أول شخص يتحدث إليه بوش عن هذه التقارير.
قبل أيام صارح باول إحدى الصحف الأميركية بقوله: اللعبة ما زالت مستمرة. وكان يقصد أن البحث مازال جاريا عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة. غير أن فرق المفتشين الذين أوفدهم بوش إلى العراق لم يعثروا على شيء وعاد نصفهم بخفي حنين إلى بلدهم خلال أعياد الميلاد ورأس السنة من دون إثارة ضجة إعلامية. كل ما تم التوصل إليه من خلال استجواب علماء عراقيين معتقلين ومراجعة ملفات ووثائق، أن العراق لم ينتج منذ التسعينات أسلحة للدمار الشامل بل لم يكن بحوزة العراق برنامج يستحق الاهتمام، وعلى حد تعبير أحد المعلقين فإن الملاكم حين يصعد إلى الحلبة يكون على علم بقدرات منافسه. في هذه الحال كان بوش على يقين أن العراق لا يملك أسلحة تهدد لا أمن الولايات المتحدة ولا أمن «إسرائيل» ولا تهدد حياة الجنود الغزاة. ولم يحسب بوش أي حساب لمقاومة شعبية، بل كان واثقا كما أكد له الصقور أن العراقيين سيستقبلون الجنود الأميركيين بالورود، وفي الغضون بلغ عدد قتلى الجنود الأميركيين خمسمئة قتيل حتى إعداد هذا التقرير.
هل تعمدت واشنطن ولندن اختلاق المزاعم لغزو العراق؟ الواضح أن أجهزة الاستخبارات الأميركية لم تكن وحيدة في نشر الأضاليل والمعلومات المختلقة، فقد نشط الموساد الإسرائيلي وأجهزة استخبارات دول ناهضت الحرب علنا مثل الاستخبارات الفرنسية والاستخبارات الألمانية BND إذ صدرت عن هذه الأجهزة تقارير مبالغ بها والغالبية قاموا بوضع تقاريرهم على أساس التقديرات المبالغ بها التي جاءت في تقارير مفتشي الأمم المتحدة في العام 1998. وكان ينبغي على الأميركيين والبريطانيين معرفة عدم صحة هذه التقارير بحكم أن السي آي إيه والاستخبارات البريطانية MI6 ومفتشي أسلحة سابقين أبرزهم سكوت ريتر، وكذلك أهم شاهد عراقي من أقرب المقربين لصدام حسين وهو زوج ابنته حسين كامل أكدوا في شهادات لهم قبل ثمانية أعوام ونصف أن العراق تخلص من أسلحة الدمار الشامل التي كان يملكها في مطلع التسعينات.
فقد كان حسين كامل علي رئيسا لبرنامج التسلح العراقي وفر في أغسطس/آب العام 1995 مع زوجته وأطفاله إلى الأردن وانضم إليه شقيقه. في العاصمة الأردنية خضع حسين كامل إلى استجواب مكثف وقدم معلومات لم تكن معروفة في السابق عن برنامج التسلح العراقي في فترة الثمانينات. في ذلك الوقت كان العراق في حرب مع إيران وحصل على تقنية من دول غربية لبناء برنامج لأسلحة الدمار الشامل. لم يقدم أحد وصفا للبرنامج مثلما فعل صهر الرئيس العراقي السابق. لكن حسين كامل قال للمحققين الأميركيين والبريطانيين شيئا مهما: لقد أمرت بتدمير الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية والصواريخ كافة. ردا على سؤال إذا مازال هناك بعض من هذه الأسلحة الفتاكة أجاب حسين كامل بحزم: لم يبق شيء منها على الإطلاق وقد اتخذت هذا القرار كي يسهل للعراق الحصول على فرصة لبداية جديدة. هذه الأيام يجري الحديث عن الأقوال التي قدمها حسين كامل للاستخبارات الأميركية والبريطانية وتعتبر وثيقة مهمة تدحض المزاعم التي روجت لها واشنطن ولندن. فقد تم العثور بين ملفات الاستخبارات العراقية على نسخة عن محضر استجواب حسين كامل في الأردن. ويذكر أن حسين وشقيقه قتلا بعد عودتهما إلى العراق وذلك بعد أن صفح عنهما صدام واتهمت ابنة الرئيس العراقي السابق ابن عم صدام، عبدالمجيد بالتدبير لقتل زوجها وشقيقه.
من ضمن المعلومات التي قدمها حسين كامل في الأردن، كان ذكره اسم عالم عراقي يدعى «الدكتور خضير عبد عباس حمزة» الذي يقيم في الولايات المتحدة منذ العام 1995. وصفه حسين كامل بأنه كذاب محترف. لقد عمل معنا لكننا لم نستفد من عمله وحين طلب مغادرة البلاد سمحنا له. إنه رجل شيء. لكن هذا الرجل بالذات اعتمدت عليه الولايات المتحدة كشاهد من أهله راح يرسم سيناريوهات مرعبة عن أسلحة مزعومة في العراق لقاء مقابل مادي مجزٍ. وقد أبرزت وزارة الدفاع الأميركية حمزة في العام 2000 من خلال كتاب عن سيرة (صانع قنابل صدام) وراح يتنقل من استوديو لآخر في محطات التلفزة الأميركية وكان في خريف العام 2002 شريكا في الحديث مع مسئولين في إدارة بوش ومع المستشارين في وزارتي الخارجية والدفاع وكان مقربا من مستشار البنتاغون ريتشارد بيرلي الذي وضع خطة غزو العراق مع تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز في منتصف التسعينات. وحين خرج بوش ومستشارة البيت الأبيض للأمن القومي كوندليزا رايس على الرأي العام بالتحذير أن العراق يملك قنبلة فطرية، اتصل حمزة بأحد الصحافيين وأبلغه أن هذه المعلومة صدرت عنه، وأضاف أنه يملك معلومات تفيد أن عدد العاملين في برنامج أسلحة الدمار الشامل في العراق يزيد على 12 ألف خبير.
بينما كانت أجهزة الاستخبارات عاجزة عن العثور على معلومات من هذا النوع كان أحمد جلبي رئيس المجلس الوطني المعارض أحد أبرز أعوان السي آي ايه، يزود المسئولين الأميركيين بالأشخاص الذين يروجون لمعلومات تخدم استراتيجيتهم تجاه العراق وتؤكد مزاعمهم وتضفي عليها صدقية لدى الرأي العام الأميركي. وكان جلبي يوصي مكتب المهمات الخاصة في البنتاغون بسماع مع يقوله الأشخاص الذين يختارهم بنفسه. وكانت مصلحة جلبي تقضي بإقناع الأميركيين للتخلص من صدام واجتهد مثل الأكراد في التعريف بشهود مزعومين.
من بين الأشخاص الذين ذكر حسين كامل اسمهم في العام 1995، صباح مظهر خبير الصواريخ الذي حمل وثائق مشروع تطوير الصواريخ إلى بيته. درس مظهر في تشيكوسلوفاكيا وفي الثمانينات سعى في ألمانيا إلى الحصول على تقنية تطوير الصواريخ ولدى الاستخبارات الألمانية ومصلحة الضرائب في مدينة كولون ملف خاص به. قبل أسبوع أجرى أحد محرري صحيفة «واشنطن بوست» مقابلة مطولة مع مظهر وتبين أن الأخير كان أقرب من الصعود إلى القمر منه إلى صنع برنامج متطور للصواريخ
العدد 502 - الثلثاء 20 يناير 2004م الموافق 27 ذي القعدة 1424هـ