العدد 502 - الثلثاء 20 يناير 2004م الموافق 27 ذي القعدة 1424هـ

مفارقات العراق السياسية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يعيش العراق اليوم سلسلة مفارقات سياسية كان من الصعب توقعها حين دخلت القوات الأميركية بغداد. آنذاك كانت واشنطن تعيش لحظة انتصار كاذبة قامت أصلا على معلومات تبين أنها مجموعة من التقارير اعتمدت الغش والخداع. الآن بدأت تظهر الأكاذيب على وقائع ميدانية هي أقرب الى الفاجعة السياسية. فالولايات المتحدة التي اعترفت ادارتها بأنها بالغت في تضخيم معلوماتها لتبرير الحرب بدأت تعترف بأنها أيضا بالغت في تضخيم نتائج الحرب لتبرير وجودها في العراق، وكذلك بدأت تقر بأنها أيضا بالغت في تقديم الوعود للشعب العراقي المنكوب.

انها حرب مبالغات. ومن يبالغ في الأسباب يضطر الى المبالغة في توقع النتائج، ومن يكذب أولا يكذب أخيرا، ومن يعتمد على الخداع لابد له أن يستمر في الخداع وإلا فقد مبرر وجوده واستمراره في بلاد تبين أنها غير مستعدة نفسيا وسياسيا لتقبل ما يفرض عليها من الخارج.

حرب المبالغات انتجت الآن ما يمكن تسميته بالمفارقات السياسية، وهي مفارقات لم يكن بالامكان توقعها قبل فترة ولكنها الآن ظهرت على أرض الواقع بعد أن انتجت الحرب نقيضها. والنقيض هو بداية نمو وعي عراقي يتجاوز الاحتلال ويطالب برحيله، ويؤكد ضرورة تنفيذ ما طرح من وعود (أحلام وردية) للشعب مقابل سكوته أو تجاهله للدمار والخراب.

«حبل الكذب قصير» كما يقال. والآن وفي فترة لا تزيد على الشهور العشرة أخذ الاحتلال يسحب وعوده واحدا بعد الآخر الأمر الذي انتج سلسلة مفارقات في مختلف الهيئات حتى تلك التي انتدبها الاحتلال واعتمدها كوسيط سياسي مع الناس. فمجلس الحكم الانتقالي غير موحد على الكثير من النقاط الجوهرية وتحديدا تلك التي تطال هوية الدولة ووحدتها وسيادتها على كل أجزاء الوطن. والحكومة المعينة غير متفقة على قضايا لها صلة بعمليات نقل السلطة واعادة بناء المؤسسة العسكرية.

هذا التخبط السياسي يمكن قراءة ملامحه في جانبين. الأول ان الاحتلال نفسه فتر حماسه وبدأ يخطط للرحيل ليس خارج العراق وانما الى داخله (قواعد عسكرية دائمة واعادة انتشار على الحدود الدولية). والثاني ان ادوات الاحتلال المحلية انكشفت أمام القوى الفعلية في العراق وظهر ضعفها وعدم قدرتها على ضبط الانفلات الأمني أو تقديم بدائل أو مشروعات وطنية مقبولة من الناس.

فشل الاحتلال في تقديم نموذجه الخاص في «الشرق الأوسط»، وضعف القوى المتعاملة معه، ونمو وعي عراقي يتجاوز الاحتلال ويطالب برحيله، كلها اضافات رسمت خطوط المفارقات بين القوى السياسية. فالقوى التي جاءت مع الاحتلال باسم الديمقراطية تطالب الآن بتعليق الديمقراطية أو تأجيلها بذريعة أن الوضع في العراق ليس ناضجا كفاية لتقبل الديمقراطية. والقوى التي رفضت الاحتلال أخذت تضغط لاجراء انتخابات قبل رحيل القوات حتى تتسلم القوى المنتخبة مقاليد السلطة بدلا من جهات تنتدبها واشنطن وتفرضها بالقوة على الناس.

إلى هذه المفارقات السياسية هناك اضافات دولية. فالولايات المتحدة التي كانت ترفض مشاركة دولية في «الغنيمة» بدأت تتنازل، وأخذت تحث الأطراف على المشاركة سواء بشطب أجزاء من الديون أو بالموافقة على دخولها على خط اعادة الاعمار. كذلك أخذت تطالب الأمم المتحدة بلعب دور في بناء العراق الحديث سواء عن طريق ارسال قوات أو بعثات دولية أو تحمل مسئولية قانونية أو أدبية في ارساء قواعد انطلاق لنظام بديل عن ذاك الذي اخترعته في فترة سقوط صدام. هناك سلسلة مفارقات ولكنها حتى الآن لا تجيب عن السؤال: هل تغيرت أميركا أم تغيرت تكتيكاتها نظرا لتغير الظروف المحلية والدولية؟

أميركا لم تتغير ولاتزال تدفع باتجاه مشروعها العام على رغم فشله في التجربتين الافغانية والعراقية... ولكن الذي تغير هو اختلاف المناخات الدولية وانعكاس ذاك الاختلاف على المزاج الشعبي في الداخل الأميركي في فترة بدأت الساحة تشهد عودة إلى التنافس بين الحزبين على معركة الرئاسة.

أميركا لم تتغير كذلك استراتيجية الحزب الجمهوري ولكن الادارة بدأت تخفف من حماسها الأيديولوجي في معاركها الخارجية لتتفرغ لمعركتها الداخلية وهي بالضرورة ليست ايديولوجية بقدر ما هي سياسية. فالأيديولوجيا لا تنفع جورج بوش داخليا فهي مجرد سلاح يستخدم في الخارج ويعاد انتاجه داخليا في معادلات اقتصادية وحسابات الربح والخسارة في موازين التجارة والمال.

انها حرب مفارقات فهي بدأت من نقطة وستنتهي في نقطة . وليس بالضرورة ان تكون نقطة النهاية هي نقطة البداية فأحيانا تكون النهاية عكس البداية وضدها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 502 - الثلثاء 20 يناير 2004م الموافق 27 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً