«كيل روي سيلك» أشاهد له برنامجه الجماهيري متى ما استطعت، فالبرنامج الشعبي يذاع بعد التاسعة صباحا يوميا من الـ «بي بي سي» (محطة التلفزيون البريطاني) كثيرا ما يناقش وعلى الطريقة الأميركية، قضايا تهم المجتمع البريطاني، وخصوصا الموضوعات المختلف عليها. عندما أقول (على الطريقة الأميركية) اعني في الانفتاح غير المحدود، وخصوصا في قضايا ومشكلات تواجه الأسرة البريطانية، تلك التي تهم المجتمع، وله موقف من الهجرة والغرباء يتضح كثيرا في برنامجه.
وسيم الشكل على رغم بلوغه الستين، ينتقل من متحدث إلى آخر في قاعة البرنامج المفتوحة على شكل مسرح صغير متدرج، وكثيرا ما يجلس بشكل حميمي بجانب المتحدث أو المناقش رجلا كان أو امرأة، للبرنامج الكثير من الشعبية التي جعلت مقدمه كيل روي يترك مقاعد البرلمان ليتفرغ له، بل ويسمي البرنامج باسمه (كيل روي).
مقالته التي أثارت ضجة كبيرة هي في جزء منها تسفيه للعرب، وأسوأ ما في تلك المقالة التعميم، وربما هذا التعميم الذي جعل من مؤسسة الـ «بي بي سي» الكبيرة ذات السمعة الواسعة توقف البرنامج وتقدم روي للتحقيق.
الخطوة الأخيرة (وقف كيل روي عن العمل و التحقيق معه) تقدم لنا شيئا ولو صغيرا عن مدونة الأخلاق وعلاقتها بالاعلام في المجتمعات المتقدمة. فليس المطلوب عدم النقد لان النقد هو الفلسفة التي تقوم عليها حركة الثقافة في المجتمع الغربي. إنما هذا النقد له أصول يرعاها، فالفرنسيون مثلا لديهم ما يعرف اليوم «ميثاق شرف إعلامي» صدر قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن، له عدد من القواعد التي إن تخطاها إعلامي ما، وثبت عليه ذلك، يفصل من نقابة الإعلاميين وبالتالي يحرم من العمل.
في كثير من الدول لديهم مثل هذه المؤسسة التي يتوافق عليها أهل المهنة كما يتوافقون على مرجعياتها. في بريطانيا هناك هيئة الصحافة التي تفصل في الخلافات التي تنشأ في الممارسات الصحافية لفصل الصحيحة منها عن الخاطئة، ولعل في تعويض المواطن السعودي بن محفوظ الأخير من خلال صدور حكم قضائي لمصلحته ضد إحدى الصحف البريطانية دليل آخر على أن الاتهامات غير المدعومة بحقائق على الصحافي والصحيفة دفع ثمنها في نهاية المطاف، وهو ثمن باهظ سواء في قيمة التعويض أو سمعة المطبوعة.
الصحف العربية التي تصدر في الخارج كثيرا ما تنشر في طبعتها المحلية اتهامات لا تستطيع أن تنشرها في طبعات تطبع في عواصم الغرب، لان القانون هناك يلاحق تلك الصحف إن لم يكن لديها إثباتات لا يرقى إليها الشك في التهم المنشورة، ولديا عدد وافر من الأمثلة ليس المقام هنا عرضها.
في هذه المعادلة وجود الطبعتين المختلفتين للصحف العربية دليل يكمن فيه بعض ضعف العمل المهني الإعلامي العربي، إلا أن ذلك واحد من القضايا التي أثارتها بشكل جانبي نشر مقالة كيل روي. وهي علامة على نقصنا العربي الكبير مهنيا في هذا القطاع المهم الذي من المفترض أن يقوم بمتابعة الخلل في المجتمع لا التشهير بالناس من دون دليل.
ولعلي أضيف هنا أن الموقف الرسمي والمؤسسي من كيل روي الذي أدى إلي فصله من وظيفته ليس فقط وجود المدونة الأخلاقية، ولكن أيضا موقف المؤسسات في الحفاظ على السلام الاجتماعي، فالتوقيف لم يأت نتيجة غضب بعض العرب خارج بريطانيا، ربما كان ذلك عاملا من العوامل، ولكن أيضا نتيجة وجود عدد كبير من العرب (والمسلمين) في بريطانيا. لذا جاء موقف السلطة الرسمية مناهضا لما كتبه كيل روي اتقاء لخلل في العلاقات بين الأجناس في الدولة، على رغم أن الموقف الشعبي البريطاني متعاطف معه أو ليس غاضبا إلى تلك الدرجة، بل علق أحدهم أن فصل روي من وظيفته هو أفضل عملية علاقات عامة يمكن أن يحصل عليها، فسرعان ما ستزحف إليه مؤسسات إعلامية أخرى للاستفادة من اسمه الذي أصبح مشهورا!
بيت القصيد هي رؤية الغربي للعربي، وهي رؤية سلبية سآتي على بعض صورها في هذا المقال، إلا أن الانكى من ذلك هي رؤية بعض «العرب» إلى «العربي الآخر» ونحن جيل في الخليج على الأقل عانينا من تعميم بعض العرب ومازلنا.
هناك طائفة واسعة من الأدبيات العربية التي تصف أهل الخليج بالتخلف سواء كان ذلك في الشعر أو الرواية، ولقد اطلعت على بعض الروايات العربية التي تحتاج إلى دراسة نفسية الكاتب قبل دراسة مسرح الرواية نفسها، ففيها من الوصف ربما ما يوازي ما كتبه كيل روي أو يزيد، وان كان أحد من القراء يريد أن يعرف مثالا فلدي ما قاله المرحوم نزار قباني عن أهل الخليج أصحاب «الدشاديش»، فكتب: «ها هم بنو تغلب في سوهو وفي فكتوريا..يشمرون ذيل دشاديشهم... ويرقصون الجاز..!
إلى آخر القصيدة التي سماها (أبو جهل يشترى فليت ستريت)! وتعرض الشاعر بكثير من الدونية لبعض أبناء جلدته، الذين للمصادفة البحتة ولدوا في بلد مختلف لا أكثر.
بل إن نزار قباني رحمه الله من أكثر ما كتب عن أهل النفط وأين يخبئون نفطهم ويتراجع أي كاتب أن ينقل ما كتبه للعامة من القراء، وربما كفانا الصديق الباحث راشد المبارك في كتابه شعر نزار بين احتباسين عن الخوض في التفاصيل.
المراد هنا هو رؤية الغربي بعامة للعربي، ولقد عاش بيننا الكثير من الغربيين فنظروا إلي طباع العرب نظرة ناقدة، بل ربما غير علمية، فهذا جلوب باشا الذي عاش مع العرب وبخاصة القبائل البدوية يكتب عنهم (عام 1945): «العرب قوم يدركون بألم مدى تخلفهم وضعفهم وعدم نضجهم، وتظهر عليهم جميعا النزعات العاطفية، وصفات عدم الاستقرار التي تظهر على المراهقين، كما أنهم يتميزون بحساسيتهم واستعدادهم للهجوم لدى أي تنازل يقدمه كبارهم..».
وتتناقض الرؤية للعرب فيكتب مرة أخرى نفس الكاتب جلوب باشا: «لا يوجد عرق أطيب من العرب واشد سحرا وأكثر بديهية وروحا وفكاهة، وحتى تاريخ اليوم لدي أصدقاء من العرب أكثر مما لدي من الإنجليز..) ترى من هو المتقلب!
يكتب ستيوارت بيروين عام 1926 عن الفلسطينيين في القدس فيقول: «السكان هنا ليسوا عربا بل مشرقيون يتكلمون العربية...». أما جورج سادلر الرحالة البريطاني فيكتب: «علي فقط أن اكرر أن طباع المماطلة والنفاق والخداع والقدر والاحتيال التي يتصف بها البدوي لا يمكن وضعها في لغة تمكن الأوربيين من استيعاب الشخصية الحقيقية لهذا القطاع من....). أما أمين الريحاني فقد وصف البدوى بصفات يصعب تكرارها فهي تثير حفيظة المسالم.
والذي أقصده من كل هذه الروايات أن البعض في ثقافات أخرى أو في الثقافة نفسها يميل إلى لصق صفات غير سارة أو غير واقعية في الآخرين المخالفين، وهو أمر ينم إما عن جهل أو حماقة أو الاثنين معا، وخصوصا عند التعميم، ولمثل هذه التعميمات مفهوم استخدم في القرن العشرين يشار إليه بـ «العنصرية»، فقد صنف الألمان النازيون العرب في ما قبل آخر السلم الإنساني، ومع ذلك كان كثير من العرب مؤيدين لهتلر، ولا تنقصهم الحماسة للنازية!
ليس كل الغرب ينظر إلى العرب بسلبية، ولكن بعض الممارسات والأخطاء التي نرتكبها تسهل على كيل روي ومثله من الكتاب تمرير ما كتب على العامة المهيئين للتصديق، أيضا نتيجة الأخطاء التي نرتكبها، ومن مثل كيل روي (شخصية عامة) تلقى التعاطف من فشلنا حتى الآن في الوصول إلي عقول الكثرة في الغرب. ولا يجوز اعتبار خروج كيل روي من وظيفته تغييرا في موقف العامة من أهل الغرب، فالأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك بكثير.
كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 501 - الإثنين 19 يناير 2004م الموافق 26 ذي القعدة 1424هـ