هل تعلمون لماذا احتلت قضية التأمينات كل هذا الاهتمام لدى الجمهور الذي عزف عن متابعة ما يجري في البرلمان؟ لأنها قضية تمس أكثر الأوتار حساسية عند الشعب وتهدد مستقبل الآلاف. فالمال عصب الحياة، به تقوم معائش الناس وتنتظم دورة الحياة، فلا غرابة ان تحظى بمثل هذه المتابعة الشديدة من الجميع. فكل ما قيل عن تجاوزات وسياسات خاطئة بلغت الخسائر فيها بالملايين، نحو 300 مليون دينار في أقل من تسع سنوات، يمكن ان نلاحظ فداحة الخسارة إذا علمنا ان هذه المبالغ يمكن أن يبنى بها آلاف الوحدات السكنية لتحل مشكلات المواطنين المأزومين في هذا البلد. وإن من أغرب ما أثير من ردود هو «ان التجارة مغامرة»، في تبرير واضح للسياسات الخاطئة التي أوقعت هذه الخسائر التي لا يتحملها مجتمع فقير، محدود الثروة والامكانات مقارنة بدول الجوار. مياهنا تأتي من تحت طبقات الأرض في الجزيرة العربية، وبترولنا الذي ننتجه يأتينا من البحر وليس من اليابسة، فهل مثل هذا البلد يتحمل مثل هذه الخسائر؟ هذه القضية ينبغي التوقف عندهاطويلا لطرح طرق الإصلاح والتقنين ووضع الحواجز لعدم العودة لمثلها، فالمال العام ليس نهبا للطامعين، ولا ينبغي أن يظل سائبا، يتصرف فيه المسئول كيفما يشاء، فالناس «شركاء» في هذه الثروة العامة، وإذا كان من المسلمات ان حريتي تنتهي إذ تبدأ حرية الآخرين، فإن حدود سلطة المسئول تنتهي عندما تبدأ «تهدّد» مصلحة المواطنين. وهناك قيم ينبغي التوافق عليها، فـ «المسئول مؤتمن» والأموال العامة «أمانة»، والوظيفة الحكومية ليست كرسيا يلتصق فيه الفرد حتى ينتزعه منه ملك الموت، وانما هو عمل يتقاضى عليه المسئول مالا من خزانة الدولة دون فضل ولا منة من أحد، ولا يؤديه «قربة لله تعالى». ومن هنا لا يحق لأحد أن يتخذ قرارا يضر بالآخرين، خصوصا ان هذه الاموال تعود للأكثرية الصامتة الهادئة، التي لا تدري ما يراد لها وكيف تصرف مدخراتها.
وإذا كانت التبريرات جاهزة والحجج متوافرة، لتغطية ما جرى، والالتفاف على أية محاولة لإحداث أي تغيير إصلاحي يحسّن من سمعة البلد وأدائها، فإن لنا أن نسأل: «إذا كانت التجارة مغامرة، فهل يقبل أي مسئول بأن يصرف أمواله الخاصة على مثل هذه المغامرات؟ هل يقبل أي وزير بأن يصرف مدخراته على شراء شركة خاسرة أو إنقاذ مصرف متهاوٍ؟ وهل يقبل بأن يصرف من «رأسماله» للتبرع «دون مقابل» لمستشفى هنا أو جمعية خيرية هناك؟! لو كان المال مالا خاصا لما احتج أحد، فالناس قوامون على أموالهم حتى لو تصرفوا بطرق غير رشيدة، ولكن للمال العام حرمته التي ينبغي ان يحافظ عليها.
وإذا كان من الصعب وضع الضوابط الاخلاقية لصيانة المال لسبب أو لآخر، فإن هناك مؤسسات مدنية تعتبر تجاربها نماذج يسترشد بها في هذا البلد، فالصناديق الخيرية تجري أمورها بالانتخاب، وتحكم حركتها غالبا قوانين صارمة أو شبه صارمة، ليس فقط خوفا من مغادرة المنصب وعدم الترشيح في الدورات المقبلة، ولكن لأن الضمير يحكم في مساحة كبيرة من هذه الانشطة. وهو أمر يغدو من الخيال أن نطالب بتطبيقه في المؤسسات العامة التي لا تشترط قضية النزاهة أو الامانة أو الاستقامة شرطا للحصول على الوظيفة أو البقاء فيها للأسف الشديد.
تجارب الصناديق الخيرية نموذج نستشرفه للتأكيد على ضرورة تصحيح الاوضاع في المؤسسات الرسمية، خصوصا تلك التي تتعامل مباشرة مع أرزاق ومدخرات الناس التي يعدونها لمستقبلهم. في الصناديق الخيرية - هذه المؤسسة المدنية- هناك إدارة تعقد اجتماعات منتظمة لمتابعة الأمور وتصريفها، ولا يتم البت بأي قرار إلا عن طريق التصويت والأخذ برأي الغالبية، ولا يتم التصويت نفسه إلا بعد عرض النتائج التي توصلت إليها «لجنة البحث الاجتماعي» مشفوعة بالتوصيات، هذا والقرار الذي يتخذ هنا يتعلق بإقرار مبلغ 100 دينار لمساعدة شخص معسر على الزواج أو دفع جزء من كلفة الزواج، أو إقرار مساعدة شهرية لعائلة فقيرة قد لا تتجاوز مبلغ الثلاثين أو الخمسين دينارا على أكبر تقدير. فكيف إذا كانت المبالغ بالملايين، والخسائر التي تم الحديث عنها تهدد بإفلاس الهيئتين؟!
لنعترف اننا مجتمع فقير، رغم هذه العمارات الشامخة والمظاهر الباذخة من مهرجانات فنية وموسيقية ونجوم تلفزيون وبهرجات ونفقات لا ندري من أين تأتي أموالها وأين تصرف وبمشورة من. والتقرير الذي نشر قبل أسابيع عن المستقبل القريب وما ينتظر البلد من مفاجآت غير مرغوبة، على رأسها كارثة البطالة بعد عشر سنوات من الآن، وهي فترة قريبة جدا، إذ سيكون هناك 60 ألف عاطل عن العمل على أقل تقدير ينتظرون وظيفة تقيم أودهم، وما يعنيه ذلك من عواقب ينتظرها الجميع كارهين.
الكلام بعيد كل البعد عن الإثارة والتحشيد، إلا أن السؤال الأهم: ماذا تم من إعداد للسنوات المقبلة؟ الكل يفهم ان البلد يمر بمرحلة انتقالية، اقتصاديا وسياسيا، ومن حسن الحظ ان الجهات الرسمية اليوم أخذت بنفسها قرع الجرس مبكرا بعد ان كانت تعلق المشكلات على شماعة «التخريب» و«المؤمرات» وتوزيع الاتهامات هنا وهناك. الوضع لا يحتمل التأجيل، وإذا كنا نريد إصلاحا فعليا فعلينا ان ندفع ثمنه، وأول هذا الثمن محاسبة من تسبب بالخطأ، ومن اتخذ القرارات الخاطئة، فشعوب العالم المتحضرة تبدأ تصحيح الخطأ بإبعاد المخطئ عن المركز الذي شغله، أما نحن فنكافئ من يخطئ بالتقاعد المبكر ونرفع شعار: «عفا الله عما سلف»، ما دام الامر يتعلق بالمال العام، أما لو كان مال أي شخص منا لتابعناه في المحاكم ورفعنا القضية للقضاة. والغريب ان هذه القاعدة لا يتم تذكرها إلا عندما يسرق شاب حصالة فيها ثلاثة دنانير، فيعاقب بالسجن مدة ثلاثة أشهر، اما من تسبب بخسارة ملايين الدنانير من مدخرات الناس فيعطى شهادة حسن سيرة وسلوك منزلة من السماء!
وبصراحة، إذا أردنا إصلاحا حقيقيا قبل أن يفقد المواطنون ثقتهم بكل شيء، فعلينا أن نعالج الوضع بطريقة حضارية، بعيدا عن كلمة الحق التي يراد بها تبرئة ساحة المخطئين: «عفا الله عما سلف»، لأن الله لا يعفو عن خسارة الأموال التي جعلها قياما للناس حسب تعبير القرآن
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 501 - الإثنين 19 يناير 2004م الموافق 26 ذي القعدة 1424هـ