يرسم الصراع على الدستور في إيران خريطة سياسية مختلفة الألوان ولكنها متعايشة ضمن إطار يضمن حرية الكلام، وفي الآن ينظم اتجاهات وفق تصورات يعاد انتاجها. واختلاف الألوان في السياسة الإيرانية مسألة مشروعة فهو بدأ منذ بدايات الثورة، وادرج قانونيا كأساس من ثوابت الدستور الذي قام اصلا على فكرة توزيع الصلاحيات منعا للمركزية أو التفرد بالقرار.
الدستور الإيراني الذي صيغ وأقر باشراف الإمام الخميني تعمد ان يوزع الصلاحيات ويمنع كتلة واحدة من فرض رأيها أو شروطها على الكتل الأخرى. فالاساس الذي اعتمده هو التوازي في الصلاحيات والمسئوليات حتى لا تقوم جهة قوية بالسيطرة على مقاليد السلطة وبالتالي الهيمنة على القرار وتسيير الدولة نحو الوجهة التي تتوافق مع مصالحها.
وبسبب هذا التعقيد كان من الصعب تصنيف الدستور الإيراني، فهو لا بالرئاسي ولا بالجمهوري ولا بالبرلماني، وهو ايضا يدمج الحالات الثلاث في شكل سياسي - قانوني يمنع العبث بهوية الدولة (الاسلام) ويعطل امكانات تحول السلطة إلى نوع من الدكتاتورية... كذلك لا يُطلق الديمقراطية من دون رقابة دستورية وكوابح نظامية. فالدستور هو مجموعة سلطات متوازية تراقب بعضها بعضا. فالرئيس مُراقَب برلمانيا، والبرلمان مَراقَب من مجلس صيانة الدستور، والمجلس مُراقَب من مرشد الثورة، والعكس صحيح.
إلى جانب هذه الهيئات هناك مؤسسات مستقلة تلعب دورها في صوغ القرار السياسي وهي تسهم بحدود معينة في لعب دور اشرافي احيانا واستشاري أحيانا أخرى وكلها أيضا داخلة في لعبة توازي الصلاحيات وتوازنها.
هذا التركيب المتوازي يفسر إلى حد كبير عدم قدرة الرئيس الإيراني على تطوير هجومه الاصلاحي... فالتطوير يصطدم بسلسلة عقبات قانونية لا يستطيع تجاوزها، واذا تجاوزها يكون احدث ما يشبه الانقلاب على الدستور. وهذا ممنوع كما تنص المواد القانونية. كذلك البرلمان لا يستطيع تجاوز الدستور حتى لو كانت الغالبية متفاهمة مع الرئيس. كذلك الحكومة لا تستطيع الاستقلال بقراراتها من دون عودة إلى الرئيس والبرلمان. ومجلس صيانة الدستور على رغم صلاحياته الرقابية لا يستطيع تجاوز البرلمان والانقلاب عليه من دون عودة إلى مرشد الثورة. وهكذا.
هذا التعقيد في صلاحيات الهيئات وتداخلها واشراف المؤسسات على بعضها ومراقبة بعضها بعضا، منع الى حد كبير الغالبية من قيادة الدولة منفردة بمعزل عن رأي الاقلية وموقعها ودورها. كذلك منع الاقلية من تعطيل قيادة الاكثرية ولكنه اعطاها حق الاعتراض من ضمن صلاحيات دستورية محددة تسهم في تأخير بعض الخطوات ولكنها لا تستطيع الغاء مناقشتها وربما اقرارها في البرلمان في حال توافقه مع الرئيس.
أيضا هذا النوع من التعقيد (صلاحيات متوازية) يفسر الى حد كبير أسباب عدم نجاح الرئيس محمد خاتمي في الذهاب بعيدا في تطبيق برنامجه الاصلاحي خوفا من الاصطدام بعقبات هي في النهاية قانونية. وأهمية الرئيس خاتمي تكمن بالضبط في هذا الجانب، فهو فعلا رجل استثنائي في لحظة انتقالية يمر بها المجتمع. فخاتمي يعرف تماما الدستور الإيراني، ويدرك ان اللعبة السياسية (اصلاحية أو محافظة) هي محدودة أو مضمونة ضمن شروط دستورية يجب احترامها حتى لا تتحول الدولة إلى نقطة تجاذب سياسية خارج النظام وقوانينه.
خيار التعايش ضمن اطار الصلاحيات المتوازية هو الخيار المر، ولكنه أفضل من حلاوة الانقلاب الذي يلغي الدستور ويفتح الدولة على باب الانهيار السياسي وربما الحروب الاهلية بين ابناء الثورة الواحدة.
كلام خاتمي ردا على قرارات مجلس صيانة الدستور المتسرعة عن «نذهب معا أو نبقى معا» هو الكلام الصحيح في لعبة احترام الدستور والتعايش المر في اطار الصلاحيات المتوازية. وهذا الكلام لا يختلف كثيرا عن حديث مرشد الثورة (خامنئي) حين اشار الى أهمية الدستور واحترامه مذكرا الناس بان الدستور السيئ افضل من لا دستور.
قيل الكثير عن إيران والتجربة الإيرانية منذ نجاح ثورتها الاسلامية، وسيقال اكثر في حال فشلت التجربة في الاستمرار وتحديدا في ابتكار الوسائل الواقعية للخروج من ازمات فرضت عليها من الخارج.
الآن تبدو التجربة امام اختبار جديد وهو انتقال الازمة إلى الداخل وهذا المحك هو الاخطر لأن المشكلة لم تعد بين دولة ثورية فرضت عليها عزلة دولية وانما بين قوى الدولة نفسها... وهي قوى انتجتها الثورة سابقا اضافة الى سلسلة تحولات ميدانية انتهت إلى انتاج تسوية دقيقة التركيب بين اتجاهات متدافعة وخرائط سياسية ملونة اتفقت على التعايش في إطار الدستور. فهذه الخصوصية السياسية هي سر الثورة في تعايش الألوان وهو تعايش يشبه ذاك السر الجميل في صناعة «السجاد العجمي»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 500 - الأحد 18 يناير 2004م الموافق 25 ذي القعدة 1424هـ