تقدّم نتائج انتخابات المحافظات العراقية الأسبوع الماضي دروسا ومؤشرات عدة، تعكس في مجملها حدوث تحوّل كبير في المجتمع العراقي على طريق عودة الوعي.

النتائج أظهرت تقدم «ائتلاف دولة القانون»، بقيادة رئيس الوزراء نوري المالكي، على حساب شريكه في الائتلاف السابق (المجلس الأعلى بزعامة الحكيم)، الذي ربما يلجأ لتعويض خسارته الكبيرة بالتحالف مع غريمه السابق إياد علاوي.

إحدى الدلالات المهمة أن المزاج العام للشعب العراقي بات يدعم الحكومة المركزية، بعد أن شارفت البلاد على دخول نفق الحرب الأهلية، وخصوصا في أعقاب تفجير سامراء، الذي أريد منه تدمير أي جسور أمام التقاء الأحزاب والطوائف المختلفة على هدف وطني جامع. وما حدث بعد هذه الجريمة أن انفلت عقال العنف الطائفي الأعمى حتى كاد يغرق الجميع.

الأخطر من ذلك ما أخذ يصدّره العراق لمحيطه من شظايا، أسهمت في تعميق الخلافات المذهبية وتضخيم المخاوف وزيادة الشكوك والهواجس بين أبناء الأمة الواحدة، بسبب أخطاء الفرقاء العراقيين المتقاتلين.

العملية السياسية كانت من البداية تواجه مطبات وتحديات، ولعل التاريخ يسجّل للمرجعية الدينية تمسّكها بالخيار السلمي وحثّ الشعب على ممارسة التعبير والتغيير عبر صناديق الاقتراع، في ظلّ أوضاعٍ متوترة وأرضٍ تهزها الاضطرابات. والأهم ما قامت به المرجعية من دور إيجابي في دفع العملية باتجاهٍ يحقن الدم العراقي، بعد ثلاثة حروبٍ خلال ربع قرن، خاضها العراقيون من دون أن يؤخذ لهم رأي أو مشورة على الإطلاق.

كان تفجير سامراء زلزالا، أطاح بالكثير من المسلمات والمشتركات بين العراقيين عبر قرون من التعايش والاختلاط. وقيل الكثير عن حاجة العراق إلى عدة عقود حتى يتم إصلاح ما دمرته سنوات الاحتلال الأجنبي، لكن الانتخابات الأخيرة تعطي الأمل بولادة أسرع مما كان متوقعا، لعراق جديد مشافى.

الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، لم يقوّض مؤسسات الدولة والجيش فقط، بل قوّض جسور الثقة والأمن النفسي لدى الإنسان العراقي، فدفعه للجوء والاحتماء بحضن الطائفة. ومن البداية لم يخفِ الأميركيون خطتهم: تحويل العراق إلى ساحة جذب لقوى الإرهاب، لتكون المنازلة الكبرى. وهكذا دفع الشعب العراقي خمسين ضعفا مما دفعه الأميركيون في حربهم التي أعلنوها على الإرهاب، فضلا عن أربعة ملايين مهجر داخل وخارج العراق.

العراقيون في تصويتهم الأخير، كانوا واضحين في الابتعاد عن الأحزاب الدينية «الخالصة»، لصالح الشعار الوطني الجامع، والميل لتأييد برنامج الوحدة بدل الفيدرالية التي تهدّد بإضعاف العراق، وخصوصا مع تحصن الأكراد واستقوائهم في الشمال.

لعلّ العبرة الكبرى في الموضوع العراقي، حينما نستعرض الشريط منذ بداية الغزو حتى اليوم، هو أن الأميركان أرادوا أمرا، وأرادت السماء أمرا آخر. وإذا أراد الله بالعراقيين خيرا، أعانهم على أنفسهم وساعدهم على لملمة جراحهم، وأخرجهم من أنهار الدم، ومستنقع الحرب الأهلية، وأنجاهم من الفتنة الطائفية، ليضعوا أيديهم بيد بعضهم بعضا، لبناء العراق الجديد، وتجاوز ما خلّفته عقود الديكتاتورية والاحتلال