قراءات لبنانية كثيرة صدرت بشأن انتخاب مجالس المحافظات في العراق. والاهتمام اللبناني ليس مفتعلا وإنما يعود إلى ذاك الرابط البياني بين بغداد وبيروت والتأثير المتبادل بين بلاد الرافدين وبلاد الأرز. فكل ما يحصل في العراق يترك تأثيره السلبي والإيجابي على لبنان. وهذا ما يمكن ملاحظته في الكثير من المحطات التاريخية قديما وحديثا. حتى حين اجتاحت قوات الاحتلال الأميركية العراق في العام 2003 تخوف اللبنانيون من أن تنعكس تلك الخطوة سلبا عليهم.
هذا ما حصل فعلا إذ اضطربت الساحة اللبنانية بين 2004 و2008 وبدأت تتعرض للضغوط الدولية والإقليمية ما أسفر عن صدور القرار 1559 وتمديد فترة رئاسة اميل لحود قسرا واغتيال رفيق الحريري وخروج القوات السورية وحصول سلسلة من الاغتيالات طاولت قيادات ورموز من قوى «14 آذار» وصولا إلى العدوان في صيف 2006 وما أعقبه من اهتزازات أهلية واعتصامات وتظاهرات تتوجت بموجات من العنف المتنقل والاقتتال في مخيم نهر البارد إلى أن حصلت اقتحامات 7 مايو/ أيار في بيروت والجبل وما أفرزته من اضطرابات اجتاحت الأحياء وخطوط التماس في طرابلس.
زعزعة الاستقرار في لبنان وتقويض مقومات الدولة وإضعافها وتفريغ المؤسسات من عناصر القوة كلها عوامل ناتجة عن تداخل مجموعة ظروف دولية وإقليمية... ولكن الكثير من اللبنانيين يربط الكوارث والسلبيات بذاك الغزو الأميركي للعراق وما أدخله من أدوات ومشروعات ومخططات استهدفت تمزيق بلاد الرافدين وإلغاء هويتها العربية ومنع الدولة من النهوض من تحت الأنقاض.
اللبنانيون يربطون دائما بين بغداد وبيروت. فالعراق يشكل تقليديا تلك البوابة الشرقية التي تضغط على بلاد الشام في حال أصيبت بالانهيار. اللبنانيون أيضا يربطون الحوادث العراقية بحلقات متتابعة ظهرت في مقابلها حلقات لبنانية متشابهة سلبا أو إيجابا. مثلا في العام 1958 وقع انقلاب عسكري في العراق ترافق مع انزال قوات المارينز الأميركية في لبنان. وحين استقر الوضع السياسي في بلاد الوافدين وأخذت السلطة تمارس تلك الصلاحيات المركزية شهد لبنان حالات من الاضطرابات الأمنية نتيجة ذاك التجاذب الحزبي (الايديولوجي) بين البعث السوري والبعث العراقي.
استمر الوضع الإقليمي يأخذ مداه السلبي في لبنان لمجموعة أسباب منها تداعيات تلك الحروب العربية - الإسرائيلية وما أسفرت عنه من مفاوضات مصرية - إسرائيلية وسورية - إسرائيلية وصولا إلى اندلاع الاقتتال الأهلي في العام 1975 وانقسام البلاد إلى معسكرين طائفيين وتدخل دمشق وبغداد على خط المواجهات إلى أن وقعت الثورة الإسلامية في إيران وسقوط الشاه في وقت كانت مصر بدأت تأخذ الخطوات الأولى نحو الانكفاء. ولكن على رغم تنوع التأثيرات الإقليمية على لبنان ظلت الكثير من الآراء تراقب العراق وترى أن دمشق هي «البرزخ» الذي يربط ويفصل بين بلاد الأرز وبلاد الرافدين فإذا اتجهت بغداد نحو الاستقرار تتجه بيروت إلى الهدوء والطمأنينة وإذا اضطربت بغداد اضطربت بيروت.
معادلة بغداد - بيروت شكلت عند الكثير من المتابعين في لبنان حجر زاوية في التفكير والتحليل والربط المزدوج بين المدينتين. مثلا في العام 1982 ترافق الهجوم البري الإيراني على البصرة والفاو في شط العرب مع الغزو الإسرائيلي للبنان ومحاصرة بيروت وإخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بلاد الأرز. وحين وقعت أزمة الكويت في صيف 1990 وأخذت الجيوش تحتشد للمواجهة في حرب الخليج الثانية ارتفعت وتيرة التدخل العسكري السوري في لبنان وأدى الأمر إلى إخراج الجنرال ميشال عون (حليف صدام حسين) من القصر الجمهوري.
«اللبننة» و«العرقنة»
كل هذه المحطات عززت عند الكثير من اللبنانيين فكرة الربط بين بغداد وبيروت إلى أن حصل غزو العراق فكانت سلسلة من الاضطرابات ترافقت مع ترويج فكرة «لبننة» العراق وبعدها تسويق فكرة «عرقنة» لبنان.
«اللبننة» و«العرقنة» أكدتا عند الكثير من المتابعين اللبنانيين نظرية الربط البياني بين بغداد وبيروت. فما يحصل في عاصمة الرشيد لا بد أن يحصل نقيضه أحيانا أو المشابه له في «باريس الشرق». فإذا اتجه الوضع في العراق نحو تقويض الدولة وتحطيم الكيان وفرز البلاد سكانيا وتحويلها إلى دويلات طوائف ومناطق (فدراليات) فأن الدولة والكيان والبلاد في لبنان ستواجه المصير نفسه وستتجه الساحة نحو كانتونات (حكومات محلية) تدير شئون المناطق والطوائف. وإذا اتجه الوضع في العراق نحو الاستقرار الأمني والتوازن السياسي وبدأت الدولة تعود إلى الساحة لتشكل ذاك الإطار الموحد والجامع لمختلف الأطياف فإن لبنان لابد أنه سيشهد ما يشبه ذاك المثال العراقي على مستوى الأمن والإعمار والتوازن بين القوى الفاعلة ميدانيا وإقليميا.
هذا الربط الميداني - البياني المعطوف على أمثلة وعينات ومحطات تاريخية لم يغب عن القراءة اللبنانية للانتخابات التي جرت في العراق لاختيار مجالس المحافظات. المتابعون وجدوا أن تلك الانتخابات تشكل عينة تعطي فكرة عن مراكز القوى المحلية ومواقع النفوذ الجوارية وتقدم صورة ميدانية عن خريطة سياسية يجري أعدادها في المطابخ الدولية والإقليمية ترسم هيئة العراق في طور ما بعد الاحتلال.
الاهتمام اللبناني ليس مفتعلا وإنما جاء بناء على تجارب لاتزال في الذاكر تحاول دائما الربط بين بغداد وبيروت سواء على مستوى قراءة ما حدث أو رؤية ما سيحدث. وبسبب هذا الهاجس الأمني - السياسي حصلت الكثير من القراءات بشأن نتائج انتخابات مجالس المحافظات في العراق ما عزز من نسبة التفاؤل ورفع من درجة المعنويات.
القراءات ليست متطابقة وأحيانا تكون متعارضة ولكن المجموع العام رأى أن الانتخابات العراقية أعطت عينة جيدة عن الاحتمالات المتوقع حصولها في لبنان. بعض التحليلات بالغ في الرؤية وأعطى النتائج جرعة زائدة من التفاؤل ولكن الحد الأدنى من القراءة الموضوعية والعقلانية اشترك في أعطاء علامات جيدة للتوازنات السياسية التي ظهرت مؤشراتها الحميدة في بغداد والبصرة والموصل. فهذه المدن الثلاث التي تقع على نهر دجلة كانت ولا تزال تشكل تقليديا ركائز الدولة العراقية الحديثة فهي عنوان الوحدة وتضمن جغرافيا عدم تفكك خريطة العراق التاريخية. لذلك استبشر اللبنانيون خيرا بالنتائج لأنها أرسلت أشارة تخالف تلك النزعات الانفصالية والتقسيمية والدعوات الفيدرالية. كذلك رأى اللبنانيون أن النتائج أعادت بعض الأمل للعراق باتجاه استنهاض دولة القانون ومحاصرة العنف وبناء علاقات ندية مع إيران وغيرها من عناصر تنعش احتمالات عودة دولة القانون في لبنان وتراجع العنف وتأسيس علاقات ندية (دولة لدولة) مع سورية.
القراءات كثيرة وبعضها متعاكس بسبب التنوع اللبناني. وظهور وجهات نظر متخالفة ليس جديدا في لبنان في اعتبار أن ساحة بلاد الأرز مكشوفة ومفتوحة على احتمالات وظروف عديدة ومتنوعة المصادر والاستهدافات ولا يمكن اختزالها بالبوابة العراقية. فالعراق مؤثر قوي على المعادلة العربية وتحديدا على الساحل الشرقي للبحر المتوسط إلا أنه ليس المؤثر الوحيد وخصوصا على لبنان الذي يتعرض لتهديدات إسرائيلية دائمة من بوابته الجنوبية (فلسطين) مترافقة مع ضغوط واهتزازات إقليمية وجوارية.
القراءات اللبنانية للحدث العراقي تبالغ أحيانا في عملية الربط بين بغداد وبيروت إلا أنها تستند في مراهناتها لوقائع ومحطات كان لها تأثيرها المباشر بدفع بلاد الأرز نحو الاضطراب أو الاستقرار. وهذا ما يفسر لغة التفاؤل التي تأسست بناء على عينة نتائج مجالس المحافظات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2347 - السبت 07 فبراير 2009م الموافق 11 صفر 1430هـ