التظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن العراق تأييدا لمطالب المرجع الديني السيدعلي السيستاني تكشف عن وجود بدايات تعارض سلمي بين مختلف قطاعات الشعب العراقي والاحتلال الأميركي. يضاف إلى مطالب السيستاني وجود قوى سياسية فاعلة ترفض سلميا كل المشروعات المتداولة في مجلس الحكم الانتقالي. فالتعارض ليس مع الاحتلال فقط وإنما يشمل أيضا كل الجهات والهيئات التي تعاونت معه خلال وجودها في لندن وواشنطن قبل اندلاع الحرب.
ما حصل في العراق يذكر إلى حد كبير ما سبق وحصل مرارا في ظروف مشابهة في فيتنام أو أفغانستان وحتى لبنان في فترة الاجتياح الإسرائيلي.
فالاحتلال يبدأ بالتعاون مع منظمات أو رموز محلية لتبرير أو تغطية الهجوم العسكري وينتهي إلى التخلي عن هؤلاء حين تنتفي الحاجة إليهم عندما تقرر قوات الاحتلال تغطية انسحابها السياسي من البلد بعد أن تكون المهمة انتهت أو حقق الاجتياح أغراضه المباشرة من الحرب.
في فيتنام تخلت إدارة نيكسون عن حلفاء واشنطن في سايغون حين توصلت إلى اتفاق مع الأعداء (هانوي) يقضي بوقف الحرب والانسحاب ضمن شروط اعتبرتها إدارة البيت الأبيض آنذاك كافية لإعلان نصف هزيمة تاركة المتعاملين يتخبطون ويدفعون الثمن. وفي أفغانستان تكرر المشهد نفسه حين قرر الرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف مغادرة أفغانستان بعد اتفاق مباشر أنجزه مع الولايات المتحدة تاركا أرض البشتون والطاجيك والأوزبك والهزارة وغيرها تتخبط قبليا ومناطقيا وأهليا إلى سنوات حتى نجحت «طالبان» بدعم من باكستان في فرض سيطرتها على كابول. وفي لبنان يمكن قراءة المشهد نفسه من خلال سياسات إسرائيلية بدأت متفاهمة مع كتلة محلية وانتهت بعد عشرين سنة من الاحتلال إلى انسحاب فوري دفعت ثمنه ميليشيات تعاونت مع الاجتياح وربطت مصيرها ومستقبلها به... ويمكن تعداد عشرات الأمثلة المشابهة التي تختلف عناوينها ولكنها تتفق على القانون نفسه. فهناك صعود وتراجع وهبوط وأخيرا هزيمة. فهي تبدأ متعاونة مع طرف وتنتهي ضده. وأيضا تبدأ متخاصمة مع طرف آخر وتنتهي متفاهمة معه لضمان انسحابها والحد من تطوير هجومه.
وفي العراق يمكن ملاحظة بدايات مشابهة لتلك الحالات (النماذج) التي وقعت في عشرات البلدان في العالم الثالث. فالخطوة الأولى تكون هجومية وتحمل معها الكثير من الوعود والآمال والأحلام. والخطوة الثانية تكون ساكنة مع الكثير من الارتباك إذ تبدأ الوقائع بالانكشاف. والخطوة الثالثة هي بداية الاكتشاف والتقاط مفارقات وموازين قوى كانت مهملة أو مغيبة. والخطوة الرابعة تبدأ بإعادة قراءة الواقع ومراجعة الحسابات وفحصها مجددا في ضوء التجربة. والخطوة الخامسة تبدأ بإعادة انتاج علاقات سياسية تعتمد على وقائع جديدة انتجها الاجتياح نفسه أو اسهم في اطلاقها من عزلتها. والخطوة السادسة والأخيرة تكون إعادة النظر في المشروع الأصلي والاستعداد للتفاهم مع القوى الحقيقية والفاعلة على الأرض لضمان ترتيب وضع سياسي يسمح بانسحاب القوات المحتلة.
هذا التدرج في الخطوات يمكن ملاحظته في التجربة العراقية. فالولايات المتحدة بدأت حربها في ظل شعارات استراتيجية (تضليلية) لتحقيق أغراض كبرى تتجاوز مصالح أعضاء مجلس الحكم الانتقالي الصغرى. والآن بدأت تقرأ واشنطن من جديد حساباتها بعد أن أدركت أن موازين القوى ليست في صالح الجهة التي اعتمدتها حين قررت الحرب.
إدارة الاحتلال في بغداد وصلت الآن وفي أقل من عشرة أشهر على الحرب إلى الخطوة الثالثة وهي بداية اكتشاف المفارقات والتعرف على قوى سياسية كانت مهملة أو مغيبة.
التظاهرات الضخمة التي حصلت في العراق تأييدا للسيستاني ورفضا للتقسيم أو تعيين شخصيات مختارة من قبل إدارة الاحتلال تكشف فعلا عن بدايات نمو تعارض سلمي (سياسي - مدني) بين المجلس الانتقالي المعيّن وارتباطاته وبين قطاعات واسعة من الشعب تريد السيادة والاستقلال وديمقراطية حقيقية.
إنها بدايات التعارض. والتعارض عادة يبدأ سياسيا ولكنه سرعان ما يتحول إلى تناقض تناحري. فهذا قانون، وتجارب التاريخ متشابهة حتى لو اختلفت العناوين والأسماء
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 498 - الجمعة 16 يناير 2004م الموافق 23 ذي القعدة 1424هـ